اليسو.. عطش وسياسة

حمزة مصطفى
منذ آواخر السبعينيات من القرن الماضي وربما قبله قليلا بدأ الحديث عن حرب المياه مرة وعن مبادلة النفط بالماء مرة أخرى وعن الأمن الغذائي بوصفه أهم ركائز الأمن القومي. ومنذ ذلك التاريخ حل هذا المصطلح وتداعياته السياسية والاقتصادية المختلفة ضيفا دائما على مؤتمرات وزراء الخارجية العرب والقمم العربية وحتى اللقاءات الثنائية بين قادة الدول العربية ودول الجوار. الجغرافية حكمت على العرب أن يكونوا دول مصب لمواردهم المائية التي منبعها دول الجوار.
حوضان مهمان دخلا معترك معادلة السياسة والأمن الوطني منذ عقود وهما حوض النيل والرافدين.
النيل ينبع من اثيوبيا مارا بالسودان ومن ثم مصر. وحوض نهري دجلة والفرات ينبع من تركيا ويمر كلا النهرين من سوريا الى العراق. العلاقات بين دول هذين الحوضين ليست على مايرام. الآن مصر ومنذ مدة تعترض بشدة على سياسات اثيوبيا
المائية. المفاجأة التي لم تكن تتوقعها مصر أن السودان انضمت الى ماتعتقده مصر تعطيشا متعمدا لها. بالنسبة للعراق كانت العلاقة مع سوريا خلال سبعينيات القرن الماضي تشبه الى حد كبير اليوم العلاقة المصرية ـ السودانية. النظام العراقي السابق كان قد اتهم سوريا بمنع الكمية المقررة للعراق حين اقامت سوريا في وقتها “سد الطبقة” وحصلت في وقتها أزمة سياسية حادة بين البلدين.
اليوم العلاقة المصرية ـالسودانية تستنسخ الخلل الذي شاب العلاقة بين بغداد ودمشق وهو ما أطاح عمليا بنظرية الأمن القومي ومن مفرادته الأمن الغذائي الذي يعتمد بالدرجة الأساس على الموارد المائية. في كلتا الحالتين فإن دول المنبع “تركيا واثيوبيا” في غاية الفرح لمثل هذه المواقف العربية الهزيلة التي تشجع دول الجوار على الإنفراد في سياساتها ضد كل دولة على حدة وتتمادى في هذه السياسة الى حدود ربما تصل حد الوقاحة.وبصرف النظرعن المبررات التركية بشأن إقامة السدود ومنها سد اليسو الذي هو واحد من 21 سدا ضمن مايعرف بمشروع “الكاب” فإن سياسة رد الفعل حيال مثل هذه المواقف والتي مارستها كل الحكومات العراقية عبر كل العهود الملكية والجمهورية لم تخلق فرصا متكاملة على صعيد التعامل الندي بين دولتين يمتلكان سيادة. ربما يطرح هنا سؤال: ما العمل؟
هل نلجأ للحرب مثلا؟ الجواب لا. لكن لدينا بالتأكيد أوراق ضغط كثيرة على تركيا وعلى إيران أيضا التي تأتي منها بعض روافد دجلة. ولعل أهم أوراق الضغط هما الورقة الاقتصادية والتجارية التي من شأنها لو إتبعت بطريقة سليمة أن تجعل من كلا الدولتين لاسيما تركيا تعيد النظر بالكثير من إجراءاتها المائية وغير المائية. والثانية هي ورقة الماء نفسه.
بمعنى أن اتباع سياسة حكيمة وعلمية تقنية حيال الماء عن طريق إعادة النظربطرق الري والزراعة وتصفية المياه بحيث يمكننا الاستفادة من أقل من نصف الكمية التي تأتينا من تركيا. عندها سيعاود علي بن الجهم الوقوف بين الرصافة والجسر على نهر دجلة مستذكرا عيون المها بينما يلوذ الجواهري مطمئنا “لوذ الحمائم بين الماء والطين”.