مبشرون بأحلام فاسدة!

عبدالامير المجر
ينسب لجوموكينياتا، احد اوائل رؤساء كينيا، قوله؛ ((عندما جاء المبشرون المسيحيون، كنا نملك الارض، وكانوا يحملون الاناجيل..علّمونا ان نغلق اعيننا ونصلي لله، وعندما فتحنا اعيننا وجدناهم يملكون الارض ونحن نمتلك الاناجيل))!
نستطيع القول ان هؤلاء الذين اسموا انفسهم مبشرين، انتحلوا هذه الصفة، ولم يكونوا، فعلا، اصحاب رسالة اخلاقية تحمل اسم السيد المسيح، وبذلك فان وصفهم بالمبشرين، تجنيا وتشويها لرسالة التبشير نفسها، سواء اتفق البعض معها من حيث المبدأ او لم يتفق.
من يتأمل المشهد المرعب الذي تعيشه منطقتنا، منذ سنوات، لا بد له من ان يتوقف عند الشعارات الاميركية والغربية الي سبقت بدايته، وكيف غرق الكثيرون من الطيبين منا باحلام يقظة، وهم يرسمون صورا وردية لمستقبلنا، قبل ان يصحوا على هذا الواقع الرهيب الذي احرق الارض من تحت اقدامنا ودمر حلمنا في حياة كريمة، ولو بالحدود الدنيا للكرامة، الأمن والاستقرار لا غير! اذ من غير المعقول ان الذي جرى في العراق ومن ثم سوريا وليبيا ومصر واليمن وتونس وغيرها من الدول التي تعيش واقعا مأزوما اليوم، حصل بالمصادفة، وان هذا الخراب (التكفيري) الكبير الذي يتوزع اراضي اكثر من دولة، يمكن ان يتحقق بجهد ذاتي لمجاميع متطرفة رغبت في تغيير الواقع السياسي في دولها، واقامة نموذجها المسخ الذي تسعى اليه.
قبل ايام صرحت كونداليزا رايس مستشارة الامن القومي الاميركي في عهد بوش الابن، بأن احتلال العراق، لم يكن من اجل اقامة الديمقراطية، بل لاسقاط النظام، بمعنى ان الفوضى التي اسموها بالخلّاقة، هي التي ستفضي الى شكل معين من الحكم بعد ان يترك البلد لمصيره، وتحت رصدهم طبعا، مجردا من مقومات القدرة على حماية نفسه، وفريسة للإرهاب والطامعين. وقبل ايام ايضا، صدرت اوامر من البيت الابيض بتسليح كرد سوريا، الامر الذي اثار غضب الاتراك الذين يرون ان اقامة نموذج كردي شبيه لما موجود في العراق عند حدودهم الجنوبية، يمثل تهديدا لأمنهم القومي، وكذلك الايرانيين، لانهم غير سعداء بهذا التطور الذي سيربك حساباتهم، ليس في سوريا فقط، بل في العراق ايضا، ويهدد وحدة اراضيهم بعد ان تتمدد رغبة الاستقلال الكردي للأراضي الايرانية، وهو ما يتوقعه المراقبون، ان نجحت ستراتيجية واشنطن في صناعة الحليف الكردي الجديد في هذه المنطقة الحساسة جدا من العالم، بمعنى ان المتغير الجيوسياسي قد تحقق وان مرحلة جديدة من العلاقات الدولية بالكامل قد بدأت من منطقتنا.
للحق نقول، ان الكرد لهم الحق في اقامة دولة لهم، مثل الفلسطينيين، لكي تنتهي المنطقة من هذه الاورام التي تتقيح بين مدة واخرى وتنفجر، من دون اي حل نهائي. وللحقيقة والتاريخ، نقول ان ارادة الكبار وقفت ضد أي حل، ولان العراق وحده غير قادر على حل مشكلة اكراده، كونها جزءا من اشكالية اقليمية، أي مجموعة مشاكل بمرجعية واحدة في اكثر من دولة، يستحيل حل أي واحدة منها من دون حل الاشكالية كلها.
لقد كان كرد العراق، يستعينون بين مدة واخرى باميركا وبعض الدول التي لها مصالح في منطقتنا، قبل ان تتركهم حالما يتحقق لها الهدف التكتيكي الذي ساعدتهم لأجله، وهو بالتأكيد ليس الهدف الكردي! وايضا ظلوا طيلة العقود الماضية، يستعينون بدول الجوار، ويتخذونها ميدانا لوجستيا لنشاطاتهم ضد حكومات بلدهم المتعاقبة، مع ان هذه الدول لم ولن تعترف لهم بما اعترف به واقره لهم العراق، وقد نزفنا معا عربا وكردا الكثير من الدم والمال والوقت الضائع والتنمية المتوقفة. الان عندما بدأ الكبار وفي مقدمتهم اميركا، يتحركون من اجل اقامة دولة كردية، فان دول الجوار جميعها وقفت ضد الكرد، ليشخص السؤال الاخلاقي الكبير، اذن لماذا كنتم تدعمون الكرد مع ان مطلبهم القديم هو نفسه الجديد اليوم، أي تحقيق الاستقلال؟!
لا احد يعرف بالضبط مدى جدية واشنطن في دعم كرد سوريا بالسلاح، لكن الواضح ان مرحلة جديدة من العلاقة بين اميركا والغرب عموما وبين دول الشرق الاوسط، قد بدأت، وان خارطة التفاهمات السابقة، ستتعرض الى تغييرات لا احد يعرف بالضبط حجمها، وان اكذوبة الديمقراطية التي انطلت على البعض، باتت اليوم احدى وسائل واشنطن ولندن من اجل احداث تغييرات، قد تطيح بخرائط دول المنطقة، لان التخوف القادم ليس من الدولة الكردية، في الاقل بالنسبة للعراقيين، بل من حدود هذه الدولة التي ستكون وسيلة الكبار من اجل جعل منطقتنا سوقا للسلاح ولعقود قادمة، وطبعا على حساب مستقبلنا كشعوب، بعد ان رهنته الانظمة وبعض القوى والاحزاب السياسية الفاعلة، بقصد منها او من دون قصد، للدول الكبرى، لان العداء المستحكم بينها، ومنذ عقود عطّل فرص اقامة تعاون ستراتيجي بين دولنا، وانشغال بعض الانظمة بالشعارات الطوباوية، اوصل الجميع الى هذا الخراب، والذي نشك في ان اية دولة من دول الاقليم قادرة وحدها على التصدي له، منوهين الى ان جميع دول المنطقة، متعادية اليوم ويضرب بعضها البعض وبالخصم المشترك نفسه، فأي خراب نعيشه واي مستقبل ينتظرنا جميعا، ومتى ننتبه؟
لقد صحونا اليوم من سكرتنا الطويلة، ونكاد نكون بلا دول حقيقية، بعد ان تسرب حلم الديمقراطية الزائف من بين ايدينا، تحت شمس الحقيقة القاسية!!.