الطَّعنةِ الأمريكيّة المَسمومة في الظَّهر

عبد الباري عطوان
الحَرب الاقتصاديّة التي يَشُنّها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضِد تركيا هَذهِ الأيّام، وأدَّت إلى “انهيارٍ جُزئيٍّ” لقِيمَة اللَّيرة التركيّة، ربّما لا تَقِل خُطورَةً عن الانقلاب العَسكريّ الذي أراد الإطاحة بالرئيس رجب طيب أردوغان وحُكومَتِه المُنتَخبة قبل عامَين، إن لم يَكُن أخطَر.
الأزمة بين تركيا والولايات المتحدة ليست جَديدةً، ولَعِب الانقلاب العَسكريّ دَورًا كبيرًا في تأجيجِها، عندما رَفَضت الإدارة الأمريكيّة إدانَة هذا الانقلاب والتَّجاوب مع طلبات الرئيس أردوغان بتَسليم الداعية التركي فتح الله غولن، المُتَّهم الأكبَر بالوُقوف خَلفَه.
الرئيس أردوغان، وحسب آخِر تَصريحاتِه، يبدو مَصدومًا من تَعاطِي الرئيس دونالد ترامب مَعه، وبلاده الحَليف الوَثيق والتاريخي لأمريكا مُنذ عام 1952 الذي يُؤرِّخ لانضمامِها كَعُضوٍ مُؤسِّسٍ لحِلف الناتو، وقال مُخاطِبًا الرئيس الأمريكي “أنتم معنا في الحِلف الأطلسي، ومع ذلك تَسعون لطَعنِنا في الظَّهر”، فما هُو الجَديد والمُفاجِئ في ذلك؟
شُعور الرئيس أردوغان بالصَّدمة يَعكِس سُوء فَهم لأمريكا عُمومًا وإدارتها الحاليّة خُصوصًا، مِثلما يَعكِس ثِقةً زائِدةً بالتَّحالُف مَعَها، واعتبارِها صَديقًا، فأمريكا ترامب طَعنت حُلفاءً أكثَر أهميّةً من تركيا، مِثل ألمانيا وفرنسا وكندا والمكسيك، وحِلف الناتو نفسه، وفَوق هذا وذاك الصِّين وروسيا، حيثُ فرَضت ضَرائِب بمِئات المِليارات على صادِراتِها إلى الوِلايات المتحدة، ولم تَحتَرِم اتِّفاقًا نَوويًّا وقّعته مع إيران، وغَزَت دَولةً مِثل العِراق واحتلّتها وقتلت ثلاثة ملايين من أبنائِها.
***
ما لا يَعرِفه الرئيس أردوغان، والعَديد من أقرانِه العَرب، أنّ أمريكا لا تُريد حُلفاءً، وإنّما تُريد أتباعًا، يَرضَخون لإملاءاتِها دون أيِّ نِقاش، وإن قَبِلَت بِهِم كَحُلفاء، فهِي تتعاطى معهم بدونيّة، وكدَرجةٍ عاشِرةٍ وليس على قَدم المُساواة مِثلما يحلمون، ولذلك شَكوى الرئيس أردوغان من أنّ أمريكا لا تَحترِم أصدقاءها القُدامى تَعكِس عدم مَعرفة بأمريكا وآليّة عمل مُؤسَّساتِها، خاصَّةً عندما يكون هذا “الصَّديق” مُسلِمًا أو عَربيًّا.
نعم، سيَقِف الله مع الرئيس أردوغان، ولكن ما يحتاجه الرئيس التركي أيضًا هو الإقدام على خَطواتٍ عمليّة لمُواجَهة هَذهِ الأزَمة، مِثلَما يحتاج أيضًا إلى عشرات المِليارات من الدولارات من حُلفائِه في مِنطَقة الخليج ودولة قطر على وَجه الخُصوص، لشِراء اللَّيرة التركيّة والاستثمار في القِطاعات الماليّة الأُخرَى، ولكن السُّؤال هو هَل تستطيع هَذهِ الدُّوَل تَحَدِّي الرئيس ترامب وإدارته، والوُقوف إلى جانِب الصَّديق التُّركي؟
الرئيس أردوغان قال أنّه سيبحث عن حُلَفاء وأصدقاء جُدد إذا واصَلت الولايات المتحدة سياساتها بعدم احترام الأصدقاء القُدامَى، في إشارةٍ إلى تركيا، ولكن أين يوجد هؤلاء الأصدقاء الجُدد، وكَم من الوقت يحتاج الأمر للعُثورِ عليهم، ومَن هُم، وما مَدى استجابتهم، ومُعظَمهم يُواجِهون عُقوباتٍ أمريكيّة؟
هُناك عِدّة أسباب تَقِف خلف هذا الحِقد الأمريكيٍ على تركيا والرئيس أردوغان:
ـ الأوّل والأهَم: اعتقال السُّلطات التركيّة للقِس أندرو برونسون، ومُطالَبة أمريكا بالإفراج عنه ومجموعة مُعتَقلين آخرين يَحمِلون الجنسيّة الأمريكيّة، ودون أي شًروط، بِما في ذلك المَطلَب التركي بمُبادَلته بالداعية فتح الله غولن.
ـ الثاني: إلغاء صفقة شِراء صواريخ روسيّة من طِراز “إس 400” واستبدالها بصَفقة صواريخ “الباتريوت” التي ثَبُتَ عدم كفاءَتها في اعتراضِ صواريخ يَمنيّة أطلَقَها الحوثيّون على مُدُنٍ سُعوديّةٍ.
ـ الثالث: الالتزام بتَنفيذ العُقوبات الأمريكيّة ضِد إيران كامِلة، والمُشارَكة في الحِصار، ووقف جَميع التَّبادُلات التجاريّة في الاتِّجاهَين.
ـ الرابع: تأييد صَفقة القرن، ونقل السفارة الأمريكيّة إلى القُدس المُحتلَّة، ووَقف تقديم أيِّ دَعمٍ لحَركة “حماس” في قِطاع غزّة.
البَند الأخطَر في رأينا هو المُتعلِّق بالقِس الأمريكيّ برونسون، فقد أعطَى الرئيس ترامب مُهلَةً حتّى 15 من شَهر آب (أغسطس) الحاليّ للإفراجِ عنه، ولا يبدو أن الرئيس أردوغان سيَذعُن لهذا التَّهديد، الأمر الذي قد يفتح الباب للمَزيد من العُقوبات على تركيا، إضافَةً للعُقوبات الحاليّة المُتمثِّلة في زِيادَة الضَّرائِب بنِسبَة 50 بالمِئة على الصادرات التركيّة من الحَديد والألمنيوم لأمريكا (كانت 20 بالمِئة).
الرئيس أردوغان يرفض توصيات بعض الخُبراء بزيادة أسعار الفائِدة لكَبح جِماح التَّضخُّم (16 بالمِئة حاليًّا)، ووَقف تَراجُع سِعر اللَّيرة أمام الدولار (انخفَضت 14 بالمِئة يوم الجمعة، وتجاوَزت حاجِز السَّبعة لَيرات مُقابِل الدولار)، ويُؤكِّد أن رَفع سِعر الفائِدة سيَزيد الفُقَراء فَقرًا والأغنياء ثَراءً.
التزام تركيا بالحِصار الأمريكيّ على إيران سَيكون صَعبًا، إن لم يُؤدِّ إلى نتائِج سلبيّة كارثيّة على تركيا، فحَجم التبادل التجاري بين البَلدين يَصِل إلى عَشرَة مِليارات دولار حاليًّا، وتركيا تَستورِد 50 بالمِئة من احتياجاتِها النفطيّة من إيران بتَسهيلاتٍ كَبيرةٍ.
الرئيس ترامب الذي لا يُخفِي عداءَه للعَرب والمُسلمين من مَنظورٍ عُنصريٍّ بَحت، يُريد تغيير النِّظام في تركيا، من خلال زَعزَعة الاستقرار الداخلي، وتَصعيد الأزَمة الاقتصاديّة، واستهدافِه اللَّيرة الهَدف مِنه هو تفجير مُظاهِراتٍ في تركيا على غِرار تِلك التي حَدثَت في إيران من جَرّاء انهيار قِيمَة الرِّيال الإيرانيّ.
التفاف المُعارَضة التركيّة بجَميع أحزابِها خلف الرئيس أردوغان وحُكومَته في مُواجَهة هَذهِ الأزَمة وتداعياتها تَطَوُّرٌ مُهِم ربّما يُقلِّص من الخَسائِر ويُفشِل مُخطَّطات ترامب، وهذا مَوقفٍ مُهِم يَستحِق التَّقدير، ويُحَتِّم على الرئيس أردوغان تَوسيع دائِرة مُشاوَراتِه والاستماع إلى المُختَصِّين والخُبراء الاقتصاديين الأتراك ونَصائِحهم حول كيفيّة تجاوز الخَطر بأقَل الخَسائِر، ومعلوماتنا أنٍه لا يَستَمِع إلا للمُقرَّبين مِنه فَقَط.
***
نِصف الديون التركيّة التي تَصِل إلى 400 مِليار دولار تقريبًا هي بالدولار، وانخفاض اللَّيرة سيجعَل من مُهَمِّة تسديدها وفوائِدها مَسألةً في قِمّة الصُّعوبة في ظِل تواصُل تَراجُع قيمة اللَّيرة التركيّة.
الدكتور إبراهيم كالين، مُستشار الرئيس أردوغان الأوّل، قال في مَقالٍ نشره أمس أن البَعض تَوقّع انهيار تركيا بعد الانقلاب العَسكريّ، فأثبَتت الأيّام فشل هذه التَّوقُّعات، والشَّيء نَفسِه سَيتكرَّر وستتجاوَز تركيا الحَرب الاقتصاديّة وستنتصر فيها، ونأمَل ذلك، ولكنّه لم يَقُل كَيف.
الرئيس أردوغان استطاع احتواء أزمَة إسقاط الطائرة الروسيّة واعتَذر للرئيس فلاديمير بوتين، واضِعًا مصلحة تركيا فَوق كُل اعتبار.. فهَل يفعل الشَّيء نفسه ويَعتذِر للرئيس ترامب بالإفراج عن القِس الأمريكيّ المُعتَقل مِثلَما يَتوقَّع بعض الخُبَراء في الشَّأن التُّركيّ؟
لا شَيء مُستَبعد.. وإن كُنّا نَتمنّى أن يُنَفِّذ الرئيس أردوغان تَهديداتِه ويَتَّجِه شَرقًا وشَمالاً مَكانه الصَّحيح بَحثًا عن الأصدقاء الجُدد والحَقيقيين وإجراء مُراجعاتٍ شامِلةٍ لسِياساتٍ أوصَلت بِلاده إلى هَذهِ الأزَمَة بطَريقةٍ مُباشِرةٍ أو غَير مُباشِرةٍ.
الطَّعنة الأمريكيّة لتُركيا يَجِب أن تكون دَرسًا لكُل الذين يُراهِنون عَليها كصَديقٍ وحَليف، فلم يُقَدِّم أحَد لأمريكا أكثَر ممّا قدّمته تركيا على مَدى نِصف قَرن من الخَدَمات.. فجَرى مُكافأتها بهَذهِ الطَّعنةِ المَسمومَة.