تقرير بريطاني يقدم رواية جديدة لاحتجاجات العراق والعشيرة التي اطلقت شرارتها

بغداد – الاعمار
نشرت صحيفة “الغارديان” تقريرا أعده غيث عبد الأحد من جنوب العراق، يتحدث فيه عن التباين في مستويات الحياة والفقر الذي يعانيه السكان العاديون في المنطقة، والنشاطات في مجال تطوير وحفر آبار النفط وضخ الخام منها، وما يجري من تطورات حول البلدات والقرى الفقيرة التي لم تنتفع كثيرا من النشاطات المحمومة.
ويشير التقرير، إلى عشيرة بني منصور، التي تتمركز في شمال شرق البصرة، حيث تعيش في أرضية مستوية وبطبقات من الملح والأعشاب الشوكية، وتعطي صفوف من أشجار النخيل اللون الأخضر الوحيد لفضاء يملؤه الغبار الأصفر والأرض البنية، وفي داخل هذه مجموعة من الحواجز التي تغلف آبار النفط ومضحاته، حيث تمر أنابيب النفط من داخل القرى لتربط آبار النفط ومحطات الضخ.
ويقول الكاتب إن منصات الضخ في الجنوب تبدو واضحة في فضاء الجنوب العراقي، حيث ترتفع أعمدة الدخان في الأفق، مشيرا إلى أن منطقة العشيرة تقع فوق حقل غرب القرن، الذي يعد من أهم حقول النفطية الغنية، الذي تملكه الحكومة العراقية، وتديره شركة “إكسون موبيل”، فبعد سنوات من العقوبات بدأت عمليات ضخ النفط في الزيادة، وبني شارع سريع من خطين يمر عبر أراضي بني منصور، وأصبح مزدحما بالشاحنات التي تحمل معدات التنقيب والعمال الأجانب.
وتذكر الصحيفة أنه تم الترحيب بفتح الاحتياطي النفطي الضخم للعراق للخبرات الأجنبية، في مرحلة ما بعد صدام حسين، باعتباره وسيلة جيدة لإنعاش الاقتصاد، وتحويل الجنوب إلى محور اقتصادي قوي، مشيرة إلى أنه بدلا من ذلك، فإن السكان العاديين لم يروا إلا القليل من الصناعة النفطية، التي تدر مليارات الدولارات، التي تم اختلاس معظمها على يد السياسيين الفاسدين.
ويفيد التقرير بأن الجنوب يشهد منذ الشهور القليلة الماضية حالة غليان من استشراء الفساد والبطالة النابعة من انعدام الخدمات، واستمرار انقطاع الطاقة الكهربائية، ونقص المياه، لافتا إلى أن سكان بني عامر، الذين تقع أراضيهم عند القرنة أو شط العرب، حيث يلتقي دجلة مع الفرات، يقولون إن المياه كانت وفيرة، وكانت لديهم أكثر من 300 ألف شجرة نخيل، حيث كانت الأبقار والثيران تستظل بظلها.
ويستدرك عبد الأحد بأن سنوات الجفاف وتسرب المياه الملحية من الخليج قامت بقتل بساتين النخيل كلها، وبيعت المواشي، وجفت الينابيع والأنهار الصغيرة، وامتلأت القنوات بالنفايات، مشيرا إلى أن فساد وسوء الإدارة المحلية والمركزية، التي سيطرت عليها طبقة من الأحزاب الدينية التي تحكم العراق منذ أكثر من عقد، أسهما في مفاقمة الكارثة البيئية.
وتذكر الصحيفة أن الشركات، التي من المفترض أن تعتمد على القوة المحلية، وإنفاق أموال في مشاريع التنمية، أجبرت على الاعتماد على الذين يرتبطون برؤساء العشائر والأحزاب الدينية، لافتة إلى أنه لا يوجد تمويل تقريبا للمشاريع المحلية، ونادرا ما يصل شيء من موارد النفط، فيما قامت المليشيات المحلية المرتبطة بالقبائل والأحزاب السياسية بتشكيل شركاتها الأمنية الخاصة، وحصلت على عقود مع الشركات التابعة للشركات الأجنبية.
ويلفت التقرير إلى أن السكان يرون أن زحام السيارات والشاحنات، التي تهدر في الشوارع الجديدة والفرعية، هو تذكير بالثروة التي تقع تحت أراضيهم ووضعهم الفقير البائس، مشيرا إلى أن الأمور وصلت إلى درجة الغليان في بداية تموز/ يوليو، عندما وصلت درجات الحرارة إلى 50 درجة مئوية، وانقطع التيار الكهربائي، وأصبحت مياه الحنفيات حارة جدا، وتجمع العشرات في حر تموز/ يوليو أمام واحدة من بوابات مجمع لشركة نفط، وقطعوا جزءا من الشارع، وداسوا بأقدامهم، ورفعوا أيديهم شاجبين شركات النفط والسياسيين.
ويقول الكاتب إن الشرطة المتمركزة داخل المجمع تحركت وواجهت المتظاهرين، فيما تحركت وحدات الجيش الموكلة بحراسة المنشآت النفطية، وأحاطت بالمتظاهرين، الذين بدأوا برمي الجنود بالحجارة، وردت الشرطة والجيش بإطلاق الذخيرة الحية، حيث قتل شاب وجرح ثلاثة من المتظاهرين، وانتشرت الأخبار في القرى المجاورة، فهرع الناس لمساعدة جيرانهم بشكل زادت فيه الحشود المشاركة إلى عدة مئات.
وتورد الصحيفة نقلا عن مواطن في القرية اسمه علي، قوله: “عندما سمعنا الأخبار بأن شخصا قتل هرع الجميع، ودعوا الآخرين للمشاركة.. شاهدت هناك مروحيتين وثلاث عربات مصفحة، وتساءلت أين كانت هذه القوة عندما سيطر تنظيم الدولة على الموصل؟”.
وينوه التقرير إلى أن التظاهرات انتشرت في تلك الليلة للقرى القريبة من حقول النفط، وعقدت في اليوم التالي تظاهرة أضخم في البصرة، وامتدت التظاهرات لمدن الجنوب الأخرى، وطالب البعض بتوفير الكهرباء والمياه، فيما دعا آخرون لتوفير فرص العمل، لكن الجميع شجبوا المحسوبية والفساد، وهاجموا المقرات الحزبية ونهبوها.
ويفيد عبد الأحد بأنه تم توجيه معظم الغضب ضد إيران، التي تعاني من تظاهرات بسبب المظالم الاقتصادية للناس العاديين، وسمع هتاف “إيران برا، برا”، مشيرا إلى أنه في مثال آخر قام متظاهرون بحرق صورة المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي.
وتنقل الصحيفة عن علي، وهو موظف حكومي، قوله: “يطالب الناس بحقوقهم.. هم يرون أن العراق يموت وتخنقه الأحزاب التي تنهبه منذ 15 عاما، لكنها مهتمة بخدمة مصالح إيران أكثر من مصالحنا، وإما ننقذ البلد أو نفقده”.
ويشير التقرير إلى مرحلة ما بعد صدام حسين، التي واجه فيها السنة الحكومة الجديدة وثاروا ضد الأجانب، لافتا إلى أن المقاومة السنية في مرحلة ما بعد تنظيم الدولة لم تعد مهمة، وبدلا من ذلك فإن الخطر كان يأتي من الغالبية الشيعية، التي قاتلت تنظيم داعش، وتطرح أسئلة حول شرعية الدولة العراقية، حيث قتل حوالي 500 من قبيلة بني منصور وهم يقاتلون تنظيم داعش.
ويبين الكاتب أن الدولة ردت على موجة التظاهرات بالعنف، واستخدمت الذخيرة الحية، وقتلت 11 شخصا، واعتقل المئات وعذبوا، بحسب ناشطين ومحامين تحدثوا إلى صحيفة “الغارديان”، فيما لا يزال هناك عدد من الأشخاص في عداد المفقودين، منوها إلى أن المليشيات المرتبطة بالأحزاب السياسية اتهمت باستخدام الرصاص ضد المحتجين واختطافهم، وأطلق النار على محام بارز قاد فريقا للدفاع عن المعتقلين عندما كان يغادر مركز شرطة.
وبحسب الصحيفة، فإن علي وصديقا له اسمه هيثم أصبحا من المطلوبين، حيث التقاهم الكاتب في مطعم قريب من القرية، وقالا إنهما يتحركان بين أقاربهما لتجنب الاحتجاز، مشيرة إلى أنهما تلقيا في الأسابيع الماضية مكالمات تهديد من قوات الأمن، وتم اختطاف سبعة من أصدقائهما على يد رجال ملثمين.
وقال علي للصحيفة: “ترى في البصرة كل يوم الثروة وهي تتدفق من حقول النفط إلى الخارج على بعد أقل من كيلومتر من السكان، حيث نجلس تشاهد الفقر والبطالة في القرى، فيما تستورد الشركات آلاف العمال الأجانب”.
ويلفت التقرير إلى أن هيثم، الذي انضم إلى الجيش في عام 2003، وقاتل تنظيم القاعدة وتنظيم داعش، يتهم الدولة بالفساد، وغياب الخدمات، ووجود المياه المالحة، والتلوث الذي تتسبب به شركات النفط، وانهيار النظام الصحي، وجفاف الأنهار، والبطالة، ويقول: “لم أخرج للشارع لأنني أريد عملا، فلدي راتب وأرض، وأتظاهر لأنني أسأل نفسي عن البلد الذي سأتركه لأولادي؟ وأي تعليم سيحصلون عليه في مدارس لا يحضر إليها المدرسون، ويطلبون رشاوى لمنح العلامات العالية”.
ويقول عبد الأحد إنه مثل بقية الشيعة في الجنوب، فالغضب موجه ضد الأحزاب السياسية ورجال الدين والمؤسسات التي تدعمهم وإيران، يقول علي: “هذه الأحزاب مسؤولة ومنذ 15 عاما عن الفشل”، ويضيف: “صوتنا في الانتخابات السابقة للأحزاب الشيعية؛ لأن المرجعيات وشيوخ القبائل طلبوا منا هذا، أما الآن فنحمل المرجعيات المسؤولية، ألم يشاهدوا ما يحدث منذ 15 عاما”.
ويتابع علي قائلا: “في الوقت الذي علقنا فيه وسط حرب طائفية -الشيعة يقتلون السنة، والسنة يقتلون الشيعة لأنهم حرموهم من السلطة- جلس النواب السنة والشيعة في البرلمان وبنوا ثرواتهم من دم الناس الذين ذبحوا بعضهم في الشوارع”.
وتورد الصحيفة نقلا عن هيثم، قوله: “النظام كله متعفن ويجب التخلص منه.. نحن سلميون، لكن كل واحد منا يقف فوق مخزن أسلحة، وقتل مليون عراقي خلال الخمسة عشر عاما الماضية، ولو تظاهرنا في البداية وفقدنا ألفا لكنا في حال أفضل”.
وينقل التقرير عن مسؤول تعليقه وهو يشرب القهوة التركية، قائلا: “أشعر بالأسف للمتظاهرين فلا أمل لنجاحهم”، وقال الرجل المتعلم، الذي عمل مع شركات أجنبية قبل أن يعين في مجلس مدينة البصرة، إن الأحزاب السياسية لديها لجان اقتصادية تحصل على حصص من كل عقد توقعه الحكومة، فيما يحفظ النواب في البرلمان مصالحها، وأضاف: “أعلم أنهم فاسدون لأنني واحد من أعمدة الفساد في المدينة”، ووضح كيف قامت العشائر التي ترتبط بالأحزاب الدينية بحيازة مناطق زراعية تعود للأثرياء من دول الخليج أو الأشخاص الذين فروا في الفترة ما بين 2003- 2004، وحولت القبائل الأراضي الزراعية لمناطق بناء، وكانت وظيفته هي إصدار شهادات مزورة تقول إن الأراضي للسكن.
وينوه الكاتب إلى أن النفايات الناتجة عن هذه المشاريع السكنية، التي بنيت دون نظام مياه صحي جيد، أدت إلى سد القنوات، ولوثت الأنهار، بشكل جعل من حياة المزراعين صعبة.
وتستدرك الصحيفة بأنه رغم محاولات رئيس الوزراء حيدر العبادي تهدئة الأوضاع، وعزل وزير الكهرباء، إلا أن التظاهرات مستمرة، مشيرة إلى أنه مثل الأنهار والقنوات الجافة، فإن الديمقراطية في العراق أصبحت أسيرة لدائرة لا تنتهي من الفساد، فأصبحت كلمات مثل الانتخابات والبرلمان والديمقراطية مقرونة بالفساد والمحسوبية والطائفية، فيما هناك من يدعو إلى نظام رئاسي قوي وإنهاء البرلمان.
وتختم “الغارديان” تقريرها بالإشارة إلى قول النائب المستقل المنتخب حديثا مزاحم التميمي، إن التظاهرات لا علاقة لها بالماء المالح ونقص الكهرباء، فالناس تعودوا على هذه الأمور بسبب الحصار، “والمشكلة أن لدينا المال الآن، لكنه لا يستخدم لمساعدة الناس.. صبر أهل البصرة حتى لم يعودوا قادرين على التحمل”، ويريد المتظاهرون ثورة؛ لأنهم غير متأكدين من قدرة النظام على إصلاح نفسه، و”في الخمسة عشر عاما التي حكمت فيها الأحزاب كانت كلها مسؤولة عن الفساد ،ولا يوجد منها من هو مؤهل لقيادة الإصلاح، فهي جزء من آلية الفساد”.