درس في العلاقات الدولية والقانون الدولي

د. عباس كاظم
حكمت محكمة العدل الدولية في لاهاي لمصلحة إيران في الدعوى التي تقدمت بها ضد الولايات المتحدة في شأن العقوبات الاقتصادية الأميركية.
ورغم أن الحكم غير قابل للتنفيذ بالإلزام، إلا أنّ له تبعاتٍ هامّةً ورمزية خاصة. فقد قدّم الإيرانيون درساً في العلاقات الدولية من خلال لجوئهم إلى معاهدة صداقة موقعة بين الولايات المتحدة وإيران في العام 1955، وُقّعتْ بعد الإطاحة برئيس الوزراء محمد مصدَّق وإعادة الشاه إلى عرشه. معاهدة بين الولايات المتحدة ونظام إيراني ثاروا عليه وأسقطوه على خلفية علاقاته الوثيقة بالولايات المتحدة. ورغم كل ما دار من نزاعات بين الدولتين بعد قيام “الثورة الإسلامية” في العام 1978 وتأسيس الجمهورية في العام التالي، ومع كثير من الأحداث التي كان من الممكن استخدامها لإلغاء المعاهدة، لم يلغ الإيرانيون تلك المعاهدة، كما لم يلغها الأميركان، بل اعتمد الطرفان عليها بين الحين والآخر لحل بعض النزاعات. وقد حكمت المحكمة للأميركان حيناً وللإيرانيين حيناً آخر.

الدعوى الأخيرة وفرت لإيران وسيلة لإحراج الولايات المتحدة من خلال استحصال حكم من أعلى محكمة دولية محايدة، وفي الوقت ذاته رمت طوق نجاة لأصدقائها الأوربيين الذين يريدون التعامل مع إيران من دون إثارة غضب الأميركان بلا سند قانوني.

خلافاً للاتفاقيات الرئاسية، التي يستطيع الرئيس الأميركي عقدها أو إلغاءها كما يشاء، تعتبر المعاهدات جزءاً من القانون الأميركي الملزم للإدارات الأميركية حتى تلغى بشكل رسمي معقّد، لأنها معاهدات مصادق عليها من السلطة التشريعية. “معاهدة الصداقة والتعاون الاقتصادي والقنصلي” بين الولايات المتحدة وإيران هي من هذا النوع الملزم للبلدين، وتظلّ ملزمة حتى تلغى وفقاً لطريقة الإلغاء المنصوص عليها في المعاهدة — تلغى عادة من جانب واحد بسبب تجاوز أحد الطرفين على شروطها أو عدم التزامه بها، أو أن تلغى باتفاق الطرفين إذا رغبا في إنهائها (الولايات المتحدة قررت اليوم إلغاء الاتفاقية).

ومن طبيعة القضايا المقدّمة إلى محكمة العدل الدولية أن المحكمة تشترط، فيما تشترطه، موافقة الطرفين على الاحتكام إليها وإلا فإنها ترفض النظر في الدعوى. لم يتوقع الإيرانيون أن توافق إدارة الرئيس دونالد ترمب على الذهاب إلى المحكمة في قضية جديدة، فأخرجوا تلك المعاهدة، التي لم تزل سارية المفعول، من خزانة الوثائق وذهبوا إلى المحكمة. في المعاهدة مادة نقول إن أي خلاف بين البلدين يمس مضمون هذه المعاهدة يحَلّ من خلال اللجوء إلى محكمة العدل الدولية، فوافقت المحكمة على طلب الإيرانيين وقولهم بأنْ لا حاجة لموافقة إدارة ترمب لأن الموافقة قد حصلت في هذه المعاهدة سارية المفعول.

بغضّ النظر عن كون الإيرانيين على حق أو على باطل، وهو أمر خارج موضوعنا هنا، إلا أنّ إدارتهم لعلاقاتهم الدولية وما لديهم من أدوات تقدم دروساً للمهتمين بالعلاقات الدولية. وهم في ذلك على العكس من القادة الذين يبدأون عهودهم بحرق الاتفاقيات وتمزيقها، بسبب خلافات مع دول أخرى. الإيرانيون يفاوضون بنفس طويل ويتعبون الآخرين ليضمنوا معاهدات واتفاقيات تخدمهم، ثمّ لا يلغونها أبداً، لأنها، ببساطة، تخدم مصالحهم حتى حين تتأزم العلاقات مع الطرف الآخر. درس يجب أن يُفهم.