بين اقتصاد السوق وليبرالية السوق

محمد شريف ابو ميسم
هنالك اشتباك بين مفهومي نظام اقتصاد السوق وبين ما يسمى بليبرالية السوق، الأول يراد به ترك الفعاليات الاقتصادية لآليات السوق التي تحكمها القوانين وتضبط ايقاعها العلاقات التكاملية بين عناصر السوق وفق منظومات تلزم الرساميل بمسؤوليات مجتمعية يتقدمها نظام ضريبي تصاعدي يحيل أموال الجباية الضريبية الى خدمات عامة
كما في “نظام اقتصاد السوق الاجتماعي” الذي استطاع أن يضع ملامح دولة الرفاه في دول مثل دول الاتحاد الأوروبي واستراليا وكندا، فيما يترك لرأس المال حرية أكبر في نظام اقتصاد السوق الرأسمالي الذي يراد له أن يتوشح بوشاح الليبرالية القائمة على الحرية والملكية والمسؤولية، ولكن هذه الأخيرة غير ملزمة الا في اطار منافع ومصالح القائم على المسؤولية وفق المفاهيم الليبرالية الجديدة.
هذه المفاهيم التي يضعها الليبراليون في قالب غير قابل للتفكك بحسب ما يدعون هي في واقع الأمر غير قابلة للاختلاط أو الانسجام، فهم يرون أن لا وجود للحرية بدون الملكية، فيما تكون الملكية أساس المسؤولية. بمعنى ان الاقتصاد الذي كان مصادرا لصالح الطبقات الطفيلية التي تحف بكيان الدكتاتورية وتتماهى معها، والذي كان يطلق عليه بـ”اقتصاد الدولة” هو في واقع الأمر اقتصاد مصادر لصالح أفراد وجماعات، يراد له اليوم أن يصادر كليا لصالح السوق وبخلاف ذلك فلا وجود للحرية، وهو التفاف يشترط وجود الديمقراطية بتكريس الملكية الفردية وفق منظور ما يسمى بالليبرالية الجديدة، وان المسؤولية التي كانت ملقاة على عاتق الدولة، يراد لها أن تكون متلازمة مع الملكية، وبالتالي فان الملكية بحسب مسؤولياتها ستكون قائمة على تشكيل علاقات السوق وتشريع القوانين وتسيير شؤون الحياة عبر رجالات السياسة الذين تصنعهم المؤسسات المالية الخاصة بوصفهم موظفين في التشكيلة البنيوية للملكية الفردية، وهو أمر يسقط دور الدولة تماما ويخرجها من دائرة المفاهيم بوصفها كيانا مصادرا لصالح الرساميل التي تتحكم في صناعة شخوص الدولة.
ولما كانت الموارد محدودة داخل الاطار المكاني لشكل الدولة، فان الشخص الذي يملك شيئا باستطاعته ان يقصي غيره من استعمال هذا الشيء، ما يعني ان حقوق الملكية ما لم يوضع لها حدود تعريفية فانها ستفرض نفسها على الدوام لتشكل منظومة للاقصاء بما يتنافى مع مفهوم الحرية.
وهذا المدخل لا يراد به الخوض في مساجلات مفاهيمية، لان الليبراليين أنفسم ما زالوا يتخبطون بشأن تأطير المفاهيم في معارض التعاريف، وبالتالي فاننا نخوض في محاولة لفك الاشباك الذي يحاول البعض توظيفه وتسويق مفهوم اقتصاد السوق في اطار ليبرالية السوق!.
اذ ان مفهوم اقتصاد السوق الذي تم تسويقه ابان الحرب الباردة بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، هو “اقتصاد السوق الاجتماعي” الذي صنع دولة الرفاه في دول الاتحاد الأوروبي بموجب المسؤولية الملزمة للرساميل وبموجب شراكة الدولة مع القطاع الخاص ومنظومة قانونية استطاعت أن تحد من تغول رأس المال ومن ممارسات الفساد التي يمكن أن يطلع بها.
وبذلك استطاع السوق أن يؤمن لادارة الدولة الايرادات المالية في الموازنة العامة عبر التزامه بنظم الجباية والتحاسب الضريبي والكمركي والخدمي فيما تكفل بادارة عجلة الاقتصاد في مختلف القطاعات الحقيقية والقطاعات الساندة لها، وحين استطاع اختراق قطاع الخدمات أثبت كفاءة كبيرة والتزاما عاليا بالقوانين في ظل سلطات تنفيذية قوية تتفوق على سلطات رأس المال، وبقي المشهد السياسي بمنأى عن تأثيرات سلطة رأس المال الا في حدود توظيف هذه الأموال في الحملات الانتخابية، على خلاف مفهوم الليبرالية الذي يعطي الحق للرساميل في توظيف عناصر القوة المالية في اللعبة السياسية الى حد شرعنة سلطة المال
في كل زوايا النشاطات المجتمعية، بمعنى ان ليبرالية السوق تدعو الى المسؤولية الفردية أو مسؤولية بدون دولة، يتحتم على الأفراد فيها أن يبرهنوا عن قدرة فائقة
في التلاؤم السريع مع محيطهم المؤسسي، وهو عالم يدعو كل واحد الى ابداع الحلول الخاصة به للخلاص من جمود السلطة، وهو طرح لم يهضم بعد في أعتى الدول الرأسمالية وما زالت تيارات اليسار والوسط وحتى يمين الوسط تتصدى له وبقوة.
الا ان المثير للسخرية حقا أن يتم التأسيس له في العراق بوصفه نموذج الديمقراطية الجديد في الشرق الاوسط والعالم
اعتمادا على عاملي الزمن والفوضى الخلاقة، وهذا ما لم يستوعبه بعد حتى اليسار العراقي، اذ ان هذا الأخير لا يزال يعمل على مواجهة وحشية الرأسمالية عبر التصدي لخصخصة القطاعات الحقيقية وسواها الساندة والخدمية، فيما تعمل الجهات القائمة على صناعة العراق الليبرالي الجديد على خصخصة مفاصل الحياتية بعيدة عن التصور من قبيل الطرق الخارجية والمداخل الحدودية وهي في طريقها لخصخصة وظائف الدولة كما يفهمها النظام الرأسمالي، وهذا ما يتم الاعداد له حاليا بشأن خصخصة منظومة جباية التعريفة الكمركية التي تم تعطيلها وتعويقها لسنوات وحين ادخل قانونها حيز التنفيذ فشلت في تحقيق 10 بالمئة من التحاسبات في اجواء من الفوضى التي لا يعرف لها سبب.