حين يكون الصمود جريمة

محمد السيد محسن*
حين عاد ياسر عرفات بعد اتفاق أوسلو إلى الأراضي الفلسطينية، بعد غياب “نضالي” طال أكثر من ثلاثة عقود، قال: “اكتشفت أن في الأرض الفلسطينية ألف ياسر عرفات”.. في إشارة إلى أن أهل الأرض الصامدين تحت نير الإحتلال وإرهاب الصهاينة هم أشرف وأنبل من المناضلين الفلسطينيين خارج الارض الفلسطينية.
الأمر في العراق بات معكوسًا حيث أن القادمين إليه بعد أن كنست سلطة الإحتلال الأرض وهيأتها لهم، لم يتوانوا عن التصريح باتهام كل من بقي من العراقيين في العراق إبان حكم نظام صدام حسين الذي يتهمه المعارضون القادمون بأنه نظام دكتاتوري شمولي غير عادل، لكنهم اتهموهم بأنهم كانوا أما عونا للسلطة أو متهاونين مع أساليب السلطة أو “جبناء” لأنهم بقوا في العراق ولم يخرجوا إلى المنافي.
فبدأت القوانين الخاصة تغدق على الذين عاوا إلى العراق ولم يعط الذين عاد العراق لهم أي شيء.
قوانين ما أنزل بها الله من سلطان من قبيل قانون “الخدمة الجهادية”، وكأن الذين جاهدوا في سبيل الله عليهم عليهم أن يأخذوا استحقاقهم من أبناء البلاد وموازنته الإتحادية في الحياة الدنيا ليلقوا الله وقد أخذوا كل حقوقهم الجهادية، فما هو فضلهم على الآخرين في الحياة الأخرى التي يطمح لها المجاهدون.
كذلك القانون المثير للجدل “قانون لاجئي رفحاء” والذي أعطى لاجئين عراقيين في المملكة العربية السعودية ومن ثم في بلدان الدول الاوربية والدول الاسكندنافية. أعطاهم ثلاث أضعاف حقوق من صمدوا في الأرض وتحملوا ضيم السلطة التي المتهسترة وقتها في القتل والتنكيل بعد انتفاضة آذار عام 1991.
ويعد العراق البلد الوحيد الذي يكرم لاجئين في بلاد أخرى ويحرم أبناء البلد الصامدين في الأرض. بل إن هذا القانون المثير للجدل اكتفى باللاجئين في المملكة العربية السعودية والتي وزعتهم بالاتفاق مع لجان دولية في شتى أنحاء العالم ليستقروا ويعلموا أولادهم، ويستفيدوا من وجودهم خارج العراق لدعم عائلاتهم المحتجزين في الداخل. لكنه استثنى اللاجئين في إيران من القانون وأعطى اللاجئين في السعودية ثلاثة أضعاف رواتب التقاعد الموظف العراقي، بل ولكل أعضاء العائلة مبلغًا مثل هذا، في حين اكتفى قانون آخر بمنح منحة مالية لمرة واحدة إلى اللاجئين والهاربين إلى إيران، منحة لكل العائلة وليس لكل فرد منها. أما الصامدون الذين يعتبرون أن ما جرى بعد عام 2003 هو عودة العراق لهم عكس الذين هربوا من بطش النظام والذين عادوا للعراق ولم يعد لهم، فإنهم لم يتخلصوا من اتهام من جاءوا للوطن ليتحكموا بكل شيء، وليقودوا العراق في الظرف الاستثنائي حيث الإحتلال الأمريكي يرجح بعضهم على بعض.
الصامدون في الأرض العراقية الذين تحملوا بطش السلطة يجب أن يلتفت إليهم القادمون للوطن لأن القادمين هم الذين يتحكمون بسلطة القرار ويحكمون الصامدين.
الذين بقوا في العراق هم الذين يستحقون الإستفادة من القوانين التي أعطيت لغيرهم، فالصمود فضيلة ما بعدها فضيلة، والبقاء تحت بطش السلطة الشمولية أشرف من الهروب منه.
الصمود ليس تخاذلاً، والهروب ليس شرفاً مع إتفاق الجميع على أن السلطة في العراق قبل عام 2003 هي سلطة دكتاتورية شمولية، ولا تعتني بالإلتزام بحالة حقوق الإنسان، ولا توفر الحد الأدنى منها للمعارضين لها.

*رئيس التحرير