الجبال العراقية
محمد السيد محسن*
وردني من احد الأصدقاء موضوعاً عن شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري وفيه قدح بعراقيته، فقط لانه سمع بعد ثلاثين عاماً انه مدح شخصاً لايحبه.
والمعروف ان الجواهري الذي ولد في مدينة النجف هو عربي اصيل وان مواقفه الوطنية لا يمكن ان ينساها من يقرأ ولا يتناقل اخبار وسائل التواصل الاجتماعي غير المسؤولة.
هذه الحادثة دفعتني ان ارد على المادة المرسلة وكتبت للمعني ان الجواهري جبل عراقي فلا يمكن ان نتنازل عنه بهذه السهولة للإيرانيين، بل يكفينا ما تنازلنا من جبال لانهم ببساطة اختلفوا معنا سياسياً أو عقائدياً.
والجواهري ليس اول جبل يتنازل عنه الزاهدون، فقبله مظفر النواب قيل عنه انه هندي واحمد الصافي النجفي من قبله أيضاً قيل عنه انه إيراني.
وكان النجفي عاد من غربته بعد نفيه كمثقف عراقي معارض، عاد وقد فقد بصره فقال بيته الشهير:
يا عودتي للدار ما أقساها
اسمع بغداد ولا أراها
الانتماء للوطن من خلال التناسل الجيلي بالشك يختلف كثيراً عن الانتماء العقائدي أو الفكري الذي لا يفقد المرء هويته الوطنية الأولى لكن استسهال هذه الحالة يجعل من المشهد معقداً خصوصا وأنه ينطوي على خبث مبيت.
ان اختلف مع غيري في فكرتي لا يمكن ان تكون ذريعة لان اجرده عن وطنيته، فهذا طريق متعدد المنافذ، وكلُ له دليله على انه يسير على طريق الهدى وغيره في الضلالة.
انه سلوك استخدمته السلطة السابقة لتسقيط معارضيها فتنازلت عن جبالها للجيران، في وقت بقوا فيه هؤلاء عراقيين لم يتنازلوا عن عراقيتهم، وبقيت مواقفهم تتسم بالوطنية.
فالجنسية العراقية أصيلة وليست مكتسبة كي يتصرف بها البعض بان يجردها من هذا ويسقطها عن ذاك.
وبقي هذا السلوك السياسي سائداً وتسربت اثاره إلى المجتمع فبات ظاهرة مجتمعية خطيرة.. يستخدمها البعض باتجاه البعض كأسهل وسيلة لتسقيط الآخر لم ينج منها حتى من كان يدعو لها أحياناً وصار سياسيو اليوم من ضحاياها، ومشكلة ذلك هي حالة التلقي والتناقل الأعمى دون التأكد من المعلومة، الأمر الذي يدفع البعض لان يتجاهل الدفاع عن نفسه كي لا يخلط بين أفكاره وانتماءاته الفكرية والسياسية وبين تسلسله الجيلي الذي يعد مطرداً وليس محدثاً.
ومع تشكل الأوطان بعد اتفاقية “سايكس-بيكو” باتت حالة الانتماء ضرورة للهوية الوطنية، وترسخت بشكل عال مع شيوع الفكر القومي وتقليص الحلقة الانتمائية بالتشبث الوطني فباتت تلك من اقسى التهم التي يوصم بها من يراد إبعاده من المشهد السياسي الوطني، وكما أسلفنا فإن ضحاياها كانوا من المؤثرين في المشهد السياسي عبر نشاط ثقافي أو إبداعي فذ، قد يحرج الحكم الشمولي الذي مثل سمة البنية الحاكمة على مدى نصف قرن تقريباً.
بيد ان ما يثير الدهشة هو تحوله إلى سلوك مجتمعي لا يخلو من الخبث باستغلال وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة الكتابة بها وتنقل الأخبار دون رادع أو رقيب، بل ودون تمحيص للمعلومة فبات التناقل من اخطر وسائل التشويه.
يجب ان نفرق بين من يؤمن أو يتعاطف مع سياسة وطن غير وطنه، وبين الانتماء الجيلي والتناسل الطبيعي لهذا المعارض أو ذاك الموالي.
كما يجب أن نعتزّ بمبدعينا فهم شواخص المدن من خلال إبداعهم، وان اختلفنا مع بعضهم في فكرة أو وجهة نظر عقائدية كانت أم اجتماعية أو سياسية.
فغيرنا لن يعطيه سوى وضعاً إدارياً من خلال جواز سفر أو جنسية مؤقتة أو دائمة مكتسبة لكن الهوية الجوهرية هو ذاك الوطن الذي تناسل به اجداده بشكل متواتر.
*رئيس التحرير