ويسألونك عن خصخصة الكهرباء
عباس عبد الرزاق الصباغ
شاءت الاقدار ان يكون ملف الكهرباء من اكثر الملفات احراجا لجميع حكومات بعد التغيير النيساني، لتماسّه المباشر بحياة المواطن وبعجلة الاقتصاد، واقتصاديا كان هذا الملف من اكثر الملفات اشتباكا والتباسا بالفساد وهدر المال العام، واندماجا بالحزم القانونية والإدارية التي رافقت تولي وزراء تمتعَ بعضهم بصفة “التكنو قراط ” إلا ان واقع وزارتهم التي لم تخرج عن نفق التوافق والتحاصص، بقي كسيحا ومأزوما لحد الان، كما اقترنت بجملة من الوعود التي كانت تنطلق مع مواسمَ مناخية (وانتخابية) معينة كأن تكون هنالك وفرة في بعض “الميكاواطات” كانت توحي لبعض المسؤولين فيها، بان يطلقوا وعودا بصيف “بارد” او شتاء “ساخن” او وجود نية “لتصدير” الكهرباء الى دول الجوار، وفي الواقع انها ما تزال تستورد الكهرباء من اكثر من دولة جارة وبالعملة الصعبة وبفاتورة الدفع المسبق، وسرعان ما تتبخّر تلك الوعود مع هبوب اول عاصفة هوجاء او قدوم اول موجة لقيظ الصيف او لشتاء قارس وممطر، وطوال المدة المنصرمة كانت جميع الموازنات (الانفجارية منها خاصة) مشرعة ابوابها لوزارة الكهرباء وبسخاء تُحسد عليه، وفي كل عام يطالب وزيرها بزيادة الاموال الممنوحة لوزارته وبعد ان يشتكي من “قلة” التخصيصات المالية وفي كل صيف ومع اشتداد القيظ يتبين الخيط الاسود من الخيط الأبيض من الحقيقة الموجعة لان جميع المحاولات لانعاش هذه الوزارة سريريا وايقافها على قدميها باءت بالفشل الذريع، والنتيجة هي تبدد الاموال سواء بالفساد او بالهدر المبرمج او بالعشوائية والتخبّط مع بقاء المواطن تحت رحمة المولدات بأنواعها وخطوط “السحب” غير القانونية، او ينتظر رحمة ربه باعتدال المناخ وهي فرصته الوحيدة لينعم بكهرباء “وطنية” مستمرة يفتقدها بقية ايام السنة.
وفي خضم السفسطة السنوية الدائرة بخصوص ملف الكهرباء تأتي جدلية الخصخصة التي طرحتها وزارة الكهرباء كحل اخير لتشتعل مواقع التواصل الاجتماعي والشارع، بحملات هائجة ورافضة للخصخصة وتكتظّ قنوات الاعلام ناهيك عن الفضائيات بالرفض القاطع لها متحجّجة بأن الخصخصة ستكون بابا مشرعَا آخر من ابواب الفساد وسرقة المواطن الذي فقد ثقته تماما بهذه الوزارة وما عاد يصدّق بأي حلّ تطرحه وإن جاء في صالحه.
وكان عيب الوزارة انها تركت الامر من دون توضيح، ولاسيما ان موضوع الخصخصة غير مطروق في الشارع العراقي، فبقيت الفكرة تتلجلج ما بين من يؤيدها ومن دون ان يقدم دليلا على فائدتها للمواطن، وبين من يرفضها ومن دون ان يقدم هو الاخر دليلا واحداً على فشلها فتاهت الحقيقة على المواطن المغلوب على امره، وكان ايضا على الوزارة ان توضح الحقيقة بادئ ذي بدء لا ان تطرح تسعيرة مجحفة للكهرباء وتعود وتصحّح، ولكن بعد ان استقر في قناعة الشارع العراقي ان تلك التسعيرة المجحفة هي الخصخصة ذاتها ولم تنفع البيانات التصحيحية اذ أصدرت وزارة الكهرباء، بيانا توضيحيا بشأن مشروع الخصخصة، مشيرة إلى أن تسعيرة أجور استهلاك الكهرباء تحتسب بوحدة الكيلوواط/ الساعة وليس بالأمبيرية، أكدت أن التسعيرة المعتمدة حاليا “مدعومة” من الحكومة بنسبة 94%. ـ في إزالة اللبس وترسيخ القناعة بجدوى الخصخصة لدى المواطن الذي ظل ومايزال يحلم بمنسوب مقبول من الكهرباء “الوطنية” وأن تنصفه الحكومة من اصحاب المولدات التي تشكّل عبئا ماديا ثقيلا آخر يضاف الى الاعباء المادية الثقيلة التي ينوء بها كاهل المواطن المرهق بالأعباء ناهيك عن كاهل الحكومة.
ولكن نتيجة للفوضى المجتمعية الخلاقة والضاربة جميعَ مفاصل المجتمع العراقي لم تبق كرة الازمة في ملعب وزارة الكهرباء وحدها، فالمواطن مسؤول ايضا عن فشل هذه الوزارة في تقديم الحد الادنى من متطلبات الشبكة العراقية الوطنية والمتهالكة اصلا وصارت (اكسباير) فالنظام العفلقي السابق اهمل تطويرها عن عمد، ولهذا فان الحكومات المنتخبة المتعاقبة ورثت قطاعا كهربائيا مهلَهلا ومتهالكا يضاف اليه الاستخدام العشوائي والتجاوزات على الكهرباء التي أدّت إلى ضياع 65 % من الطاقة المنتجة، نتيجة العشوائيّات السكنيّة المنتشرة في البلاد. فضلا عن إحجام الكثير من المواطنين عن تسديد أموال الجباية البالغة 2.7 مليار دولار. وكل ذلك ادى الى تردي واقع الوزارة وهو واقع لم يكن بعيدا عن الفساد المستشري في جميع مضارب العملية السياسية.
وكان على وزارة الكهرباء ان توضّح المقصود من الخصخصة التي تعني في ابسط تعريف لها: (تحويل منشأة الأعمال من ملكية وإدارة القطاع العام إلى القطاع الخاص عن طريق بيع الأصول) لرفع العبء عن كاهل الحكومة وهي مسألة تقوم بها جميع الدول، وليست بابا اخر من ابواب الفساد وهي فلسفة اقتصادية استراتيجية حديثة، لتحويل عدد كبير من القطاعات الاقتصادية والخدمات الاجتماعية التي لا ترتبط بالسياسة العليا للدولة، من القطاع العام إلى القطاع الخاص. فالدولة، في المفهوم الاقتصادي الحديث، يجب أن تهتمّ بالأمور الكبيرة كالأمور السياسية والإدارية والأمنية والاجتماعية التي ترتبط بسياستها العليا، أما سائر الأمور الأخرى فيمكن تأمينها من القطاع الخاص وهذا ما غفلت عنه الوزارة التي جعلت الشارع العراقي يموج بالتكهنات والافتراضات والاتهامات.
من ايجابيات الخصخصة التي نُفذت في بعض مناطق بغداد انها ستحقّق السيطرة على ادارة الاحمال بشكل متكامل، وتنظّم الاستهلاك بعد القضاء على التجاوزات والتلاعب عن طريق نصب المقاييس الذكية وباستعمال التكنولوجيا الحديثة لجميع المشتركين وانهاء الضائعات في عملية التوزيع، فضلاً على تقليل استهلاك الوقود المخصص للمولدات الاهلية الذي تصرف عليه الدولة مبالغ طائلة.
اقول: ان الوزارة والمواطن كليهما يشكّلان متلازمة الازمة المستمرة في قطاع الكهرباء فلا الوزارة قادرة في ظل اجواء الفساد والهدر والتقشف على ايفاء التزاماتها حيال المواطن، ولا المواطن في ظل التخبّط المجتمعي وعدم وجود ثقافة ترشيد استهلاك الكهرباء والاحساس بالمسؤولية الوطنية التي هي من اهم اسس العقد الاجتماعي (الواجبات) تجاه الدولة تقابلها استحقاقات، فضلاً على العشوائية غير المنضبطة في التصرف تجاه هذا الملف الذي يحتاج الى تعاون المواطن مع الدولة في علاقة ترابطية وعضوية كما موجود في جميع دول العالم.