الدفاع عن الفقر جريمة

عادل عبد المهدي
انتشرت ثقافة الدفاع عن الفقر في صفوفنا. وصار لها مرتكزات مسلكية وفكرية. وكما هو الامر دائماً، فان الفارق بين المناهج السليمة والخاطئة تبدأ بانحرافات بسيطة، ثم تتحول الى واقع كبير يقنن ويشرعن ويطور نفسه. الفقر جريمة.. والفقر كفر، او يكاد.. ولو كان رجلاً لقتلته كما يروى عن امير المؤمنين عليه السلام.. فكيف يتفاخر به البعض، وكيف يجعلونه نهجاً لحياتهم. والفقر كان تاريخياً وهو اليوم نظاماً عالمياً ومحلياً يقود لاستغلال الناس.. والفقر لا يواجه بالترويج له بل بالقضاء عليه.
الدفاع عن الفقر هو غير الدفاع عن الفقراء.. فالدفاع عن الفقراء والوقوف معهم فضيلة وواجب وحق. فهو عمل ديني وانساني ووطني يستوجب الاخذ بيدهم ليس لسد قوت يومهم فقط، بل للانتقال بهم اساساً من حالة المسكنة والفقر الى حالة القدرة والميسورية والغنى. هكذا تأمر الشرائع السماوية، والمجتمعات المتطورة التي تريد الخير لانسانها وبلدها. فبدون ذلك سنشجع دائماً الفقر، ونكرر الجريمة بحق انفسنا والاخرين. وللأسف فان الفكر والممارسة السائدتين، بمعظم مؤسساتها الرسمية والشعبية والسياسية والدينية تتردد بتشجيع مناخات القدرة والميسورية والغنى والابداع والتطور، التي بدونها لا يمكن تطويق الفقر، وتقليص مساحاته.
عانت البلاد خلال الحصار والعقوبات من حالة افقار بسبب انخفاض الموارد النفطية.. بالمقابل تسبب تزايد الاعتماد على موارد النفط الى دمار قطاعات الاقتصاد الحقيقية. فتراجع انتاج الثروات، وانتشرت مظاهر الفقر. وبقي جوهر سياساتنا توزيع الفقر على الجميع، كما فعل “الخمير الحمر” في كمبوديا، او كما تفعل “القبائل البدائية” التي تعيش الجماعات المتبقية منها، كما كانت تعيش قبل الاف السنين. الفقر لا يواجه الا بكسر حلقاته وعوامله وخصوصاً الفكرية والمسلكية والثقافية لتوفير المزيد من المداخيل والثروات والمبادرات لانتشال المجتمع والفقراء. والعراق بغض النظر عن اوضاعه، مجتمع يتمتع بدخل متوسط، وبطموح وعاطفة وحماس وقدرات تعبوية عالية، وبموارد بشرية وطبيعية عظيمة.. وهذه حالة جيدة، بل ملائمة تماماً، تسمح له للانتقال الى مجتمع ميسور وغني ومقتدر ومبدع ومبادر، اذا ما وضع نفسه في المسارات الصحيحة.. التي هي نتاج اعمال فردية وجماعية.. مخططة وعفوية توفرها بيئة كاملة لابد من رفع كافة الحواجز من امامها. فنحن نختلق الف حجة وعنوان لحماية الفقر ولحجز الطريق امام قتله. بل نحن عملياً نقدس الفقر ونقبل بالارقام والاحصاءات التي تروجها اما قوى جاهلة او مضادة. ورغم انتشار مظاهر واشكال الفقر، وكل الاوضاع الصعبة.. وكثير من الخطط والسياسات الفاشلة، لكن معظم الارقام والوقائع تشير الى تراجع اعداد الفقراء وتحسن مستويات المعيشة.. فالاقتصاد نفسه، كلياً وجزئياً، يمتلك المداخيل المناسبة والفرص الجيدة للانطلاق، لكنه محجوز بانماط الفقر وعقلياته. وهو ما يمكن مقارنته بسلوكيات “القبائل البدائية” التي تمتلك كل امكانيات التطور من ثروات وفرص، لكن سلبيتها وعاداتها ومفاهيمها تحجز الطريق امامها. مما يبقيها ضعيفة، عرضة لنهب وسخرية الاخرين.
في اواخر اربعينات القرن الماضي كانوا يعلموننا في الابتدائية” زرعوا فاكلنا ونزرع فيأكلون”.. رغم ذلك، تراجعت في العقود الاخيرة الزراعة وغيرها، وازددنا اعتماداً على النفط والاستيراد والوظيفة.. وهذه كلها بيئة لانتشار الفساد والمحسوبية والفوقية والعسكراتية والفردية والاموال السهلة. فارتبطت مصالح النخب والشرائح واصحاب المصالح والثقافة السائدة بمصالح الدولة والمواقع.. وتوقف انتاجنا للنخب والشرائح واصحاب المصالح والحقوق وثقافاتهم وممارساتهم القادرة على محاربة الفقر ودعم الفقراء. ففي دول كثيرة يمنحون الاقامة، بل الجنسية لكل من يدخل اموالاً للبلاد، او يودع مبلغاً او يؤسس لمشروع او صاحب كفاءة او ابداع علمي او ادبي، اما نحن فثقافتنا وممارساتنا، تطرد ليس المال والابداع والعلم والمشروع الاجنبي فقط، بل تطرد اساساً الكفاءة والعبقرية والمال والمشروع الوطني، بحجج ومدعيات وقوانين وتعليمات بائسة قصيرة النظر. فليس امامنا ان نتعلم الكثير، بل علينا، اولاً، ان نتخلى عن الكثير من السلوكيات والمفاهيم التي تشجع انماط الفقر واخلاقياته وممارساته، ليصبح الوصول الى المقدرة واليسر والغنى والابداع هدفاً فردياً وجماعياً ينشر ثقافته وممارساته حتى بين الفقراء، فينطبق قوله تعالى {يحسبهم الجاهل اغنياء من التعفف، تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً}.