هل يمكن إحياء دولة ميتة؟

عندما تفكك الاتحاد السوفييتي وانفصلت ولاياته، وُلِدت دولةٌ صغيرةٌ وفقيرة تسمى “إستونيا”! والحقيقة أن “إستونيا” لم تكن أكثر من مدينة متهالكة تسمى “تالين” تحيط بها قرى وبلدات يقطنها فلاحون وصيادون يعانون. تعاطفت “فنلندا” الدولة المجاورة مع جارتها التي لم يكن عدد سكانها يزيد عن المليون إلا قليلاً، وقررت إهداءها “سنترال” الهاتف القديم الذي تخلت عنه وهي تتحول إلى نظام الاتصالات الرقمي، وفوجئت الحكومة الفنلندية برفض الإستونيين للهدية، وكان مما جاء في خطاب الشكر ما معناه أن دولتنا الوليدة لن تستخدم نظام الهاتف الثابت مطلقاً، فنحن دولة شابة، يقودها شباب سيشبُّون عن الطوق وفي أيديهم أجهزة ذكية، ونظم اتصال رقمية، وروبوتات إستونية.

خرج ثلاثة من الشباب الإستونيين وطوروا نظام “سكايب” المعروف، والذي اشترته منهم شركة “ميكروسوفت” بثمانية مليارات من الدولارات. واليوم إذا كنت تقيم في الدانمارك أو لوكسمبورج أو كاليفورنيا، وتعيش على طلب الوجبات السريعة عبر هاتفك الذكي، فمن المرجح أن الروبوت الذي سيحضر وجبتك بسرعة الحمام الزاجل سيكون إستونياً! أتعرف لماذا؟ لقد فهم الإستونيون أن إحياء الدول الميتة مستحيل، فأنشؤوا دولة جديدة لا يربطها بالماضي سوى الاسم والجغرافيا وحتمية المكان.

نعم، الصدمات الكهربائية لا تُحْيي الأموات، وما عناه “ألفين توفلر” بصدمة المستقبل هو أن المهارة الوحيدة الموائمة للتغيير الجذري هي القدرة على التعلم، ثم النسيان، ثم إعادة التعلم. القدرة على النسيان مطلوبة عندما يتغير العالم والظروف المحيطة به كلياً، حتى لا تبقى عاداتك القديمة سبباً في تأخرك، فلا أحد يستطيع الفكاك من القديم فجأة ما لم يُحطِّم النمط والروتين، ويحرر نفسه من السلوك والطرق القديمة قبل أن يتبنى الفكر الجديد.

الاعتقاد بأن الجديد يمكن أن يحل تدريجياً ثم كلياً محل القديم هو افتراض خاطئ، وذلك بسبب ما يُسمَّى “عمى الانتباه” الجمعي الذي يُشبه عمى الألوان لدى الإنسان، فلا توجد حكومة أو دولة لا تريد أن تتطور، بل توجد حكومات عمياء تسير في الاتجاه الخطأ بسبب “التشتت” وتشوه العقلية الإدارية الذي يزيد الفجوات اتساعاً بين السياسة العامة والرأي العام، وبين الحقائق والأرقام من ناحية، والأحلام والأوهام من ناحية أخرى، فالمشكلة لا تكمن في الجغرافيا ولا في المكان، بل في الروح والتاريخ، وفي رأس المال الاجتماعي وشخصية الإنسان. عندما تنطلق الدول في سباق التحول، لا يعود من حقها ولا بمقدورها أبداً أن تنظر إلى الوراء، وإلا فبإمكان أي خبير صغير أن يعطينا وصفة سريعة لإحياء الدول الميتة. سيكتب في “الروشتة” المعروفة أن على حكومة دولتنا الجديدة وغير الرشيدة أن:

• تكفل تكافؤ الفرص، وتقدر المواهب، وتحترم حقوق الإنسان.

• تحمي حقوق الملكية الفكرية والابتكار وبراءات الاختراع.

• تحترم سيادة القانون، وتطبقه بعدل ومساواة.

• تضع التعليم والصحة وحرية التعبير على رأس أولوياتها.

لكن هذه الوصفات الجاهزة تبقى عاجزة، ما لم تتخلَّص الشعوب من التشتت وتمارس الانتباه من خلال التفكير الجمعي لا القَبَلي، والتسيير المؤسَّسي لا الفردي، وتمجيد الحقائق لا الشعارات.