جزر “داعش” في العراق: انحسار مناطق سيطرته إلى 5%
بغداد – الاعمار :
بعد ثلاث سنوات من اجتياح تنظيم “داعش” للعراق واحتلاله مدن شمال وغرب البلاد بشكل كامل، بما فيها من مدن رئيسية كالفلوجة والرمادي والموصل وتكريت وسامراء، ما عادل نسبته 49 في المائة من مساحة العراق الإجمالية، ووصوله إلى محيط العاصمة بغداد ومحيط عاصمة كردستان مدينة أربيل، تنحسر اليوم مساحة سيطرة التنظيم ويتراجع عديد أفراده وفاعليته كقوة على الأرض، وبالكاد تبدو الخارطة العراقية اليوم تضم بضع نقاط سوداء تشير إلى سيطرة “داعش” عليها.
واستخدم العراق في معارك استعادة السيادة على مدنه 870 ألف جندي وعنصر أمن، و120 ألف عنصر من المليشيات التي تشكّلت غالبيتها بعد سقوط الموصل في العاشر من يونيو/حزيران 2014. كما دخلت قوات حرس الحدود الكردية “البشمركة” على الخط واستخدمت 51 ألف مقاتل للدفاع عن الإقليم والمدن الكردية المجاورة التي احتلها التنظيم، وتجاوزتها بالانتقال إلى مدينة عين العرب السورية لقتال التنظيم هناك. في المقابل، تشكّل التحالف الدولي بقيادة واشنطن وعضوية 61 دولة، وأرسل قوات غربية إلى العراق بواقع 16 ألف عسكري موزعين على نحو متفاوت، إذ أرسلت واشنطن 11 ألفاً، تليها بريطانيا بواقع 1200 عسكري، ثم فرنسا وألمانيا وكندا وأستراليا وإيطاليا والنرويج والسويد ودول أخرى بأعداد متفاوتة. كما دُشنت 9 قواعد عسكرية لصالح تلك القوات، التي تطوّر وجودها في ما بعد إلى استقدام بطاريات مدفعية ومروحيات وأنظمة رادار، بينما استقدمت إيران إلى العراق 9 آلاف عنصر من الحرس الثوري والباسيج والمرتزقة الأفغان والباكستانيين، الذين شكّلوا في العراق ما يُعرف بمليشيا “المدافعين عن الحرم”، فيما دخل “حزب الله” اللبناني ضمن قوى الساحة العراقية بدفع المئات من عناصره إلى العراق لمساندة “الحشد الشعبي”.
في المقابل فإن العراقيين تكبّدوا خسائر بشرية كبيرة، تمثّلت بمقتل ما لا يقل عن 130 ألف مدني وجرح عشرات الآلاف الآخرين. فيما قُتل نحو 40 ألفاً من قوات الجيش والبشمركة والمليشيات ومقاتلي العشائر. وقدّمت القوات غير العراقية خسائر أيضاً، إذ فَقَد التحالف الدولي 9 من عناصره في العراق، بينهم خمسة في حوادث قتالية مباشرة مع التنظيم، وخسرت إيران 523 عنصراً من الحرس الثوري والباسيج بينهم نحو 200 ضابط برتب متفاوتة، بينما خسر “حزب الله” 7 من عناصره جميعهم لبنانيون.
كذلك فر أكثر من خمسة ملايين عراقي من مدنهم في شمال وغرب البلاد إلى بغداد وكردستان ودول مجاورة، كتركيا والأردن ولبنان، وسكن منهم نحو مليون ونصف المليون في خيام نصبتها الحكومة والأمم المتحدة في الصحراء العراقية.
وخلّف اجتياح تنظيم “داعش” جيشاً كبيراً من الأيتام والأرامل والمشردين، يبلغ عددهم أكثر من نصف مليون طفل ونحو 100 ألف أرملة، وأكثر من مليون مدني فقدوا منازلهم بفعل المعارك. ووجد زهاء 800 ألف مدني أنفسهم بلا عمل، إذ خرج عن الخدمة أكثر من 4 آلاف معمل ومصنع ونحو 20 ألف ورشة عمل صناعية، فيما قالت وزارة التخطيط العراقية في بيان لوزيرها صدر أمس الإثنين إن خسائر العراق من اجتياح “داعش” بلغت 100 مليار دولار على أقل تقدير.
مدن متبقية بيد “داعش”
من داخل مكتب وزير الدفاع العراقي، عرفان الحيالي، في بغداد، بدت خارطة العراق أقل سواداً، إذ لم يعد تنظيم “داعش” يسيطر اليوم إلا على 5 في المائة من مساحة العراق. ووفقاً لمصادر داخل وزارة الدفاع، فإن المدن التي ما زالت تحت قبضة “داعش”، ويُتوقع أن تطلق بغداد حملة عسكرية واسعة لاستعادتها مطلع الشهر المقبل، تبدأ شمالاً وهي:
تلعفر: تقع إلى الغرب من الموصل بنحو 70 كيلومتراً على مثلث حدودي مع تركيا وسورية، وتبعد عن تركيا 61 كيلومتراً وعن سورية بنحو 77 كيلومتراً، ويبلغ عدد سكانها ربع مليون نسمة غالبيتهم من التركمان السنّة، فضلاً عن العرب السنّة. وكان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، قد هدد في أبريل/نيسان الماضي، بالتدخّل العسكري في حال شاركت “الحشد الشعبي” باقتحام المدينة، بسبب مخاوف أنقرة من عمليات تطهير طائفية عرقية ضد التركمان العراقيين السنّة. وكان “داعش” قد سيطر على المدينة بعد يومين من سقوط الموصل في العاشر من يونيو/حزيران 2014 واتخذها معقلاً رئيسياً له بعد الموصل، ومنها أبرز قيادات التنظيم، ومنهم أبو علي العفري نائب زعيم “داعش”، وقُتل العام الماضي بغارة أميركية قرب الموصل.
العيّاضية: بلدة تقع إلى الغرب من تلعفر بنحو 11 كيلومتراً، ويسكنها أكثر من 50 ألف مدني غالبيتهم من العرب السنّة مع قومية تركمانية ومسيحيين أرمن. تحتوي على مناجم الكبريت العراقية وسيطر عليها تنظيم “داعش” بعد سقوط الموصل بيوم واحد.
الحميدات: بلدة تقع على بُعد 50 كيلومتراً شمال غرب الموصل، يبلغ عدد سكانها نحو 30 ألف نسمة من العرب المسلمين (قبيلة شمر) والمسيحيين. كانت موقعاً عسكرياً للعباسيين بسبب ارتفاعها عن المدن المجاورة لها، وتحتوي على أطلال عباسية قديمة. سيطر تنظيم “داعش” عليها بعد ساعات من سقوط الموصل بيده، ويحتجز حتى الآن أهلها ويفرض إقامة جبرية عليهم ويعاقب من يحاول الفرار منها.
المحلبية: بلدة صغيرة تقع على بُعد 35 كيلومتراً من الموصل إلى الغرب، ويبلغ عدد سكانها 14 ألف نسمة تقريباً، وغالبيتهم من القومية التركمانية السنّية.
القحطانيّة: بلدة قرب سلسلة جبال سنجار شمال غرب الموصل يسكنها نحو 20 ألفاً، غالبيتهم من الديانة الأيزيدية. تعرضت إلى واحدة من أبشع جرائم التنظيم، عندما نفذ عمليات سبي للنساء وقتل للرجال فيها إثر فرار الجيش العراقي منها في 14 يونيو/حزيران 2014 بعد سقوط الموصل بيد التنظيم.
أما في كركوك، فما زال التنظيم يسيطر على:
الحويجة: مدينة كبيرة يبلغ عدد سكانها نحو 550 ألف نسمة، تقع إلى الجنوب الغربي من كركوك ويقطنها عرب سنّة من عشائر العبيد وشمر والدليم والعكيدات وعنزة. تُعتبر ثاني أكبر مدن العراق الزراعية، وسيطر عليها “داعش” في 18 يونيو/حزيران 2014، ويحتجز سكانها ويمنعهم من المغادرة حتى الآن.
سلسلة جبال حمرين: يسيطر التنظيم على نحو 40 في المائة من سلسلة الجبال هذه، التي تمتد بين كركوك ومحافظة ديالى. وتواجه القوات العراقية والتحالف الدولي تحديات في إخراج التنظيم منها، بسبب صعوبة تنقّل الوحدات البرية والعربات في المنطقة تلك، عوضاً عن وفرة المخابئ داخل الجبال التي يستفيد منها التنظيم.
وفي محافظة صلاح الدين، يوجد التنظيم في:
الساحل الأيسر لمدينة الشرقاط: تمكّنت القوات العراقية من تحرير الساحل الأيمن من نهر دجلة لمدينة الشرقاط مطلع العام الحالي، إلا أن ساحلها الأيسر ما زال تحت سيطرة التنظيم. والشرقاط مدينة تقع إلى الشمال من محافظة صلاح الدين ويبلغ عدد سكانها نحو 400 ألف نسمة من العرب السنّة. وكانت الشرقاط (آشوركات) عاصمة الآشوريين الرئيسية.
الزوية والفتحة: بلدتان متجاورتان بين قضاء بيجي ومدينة الشرقاط، ما زالتا تحت سيطرة التنظيم ويبلغ عدد سكانهما زهاء 100 ألف نسمة من العرب السنّة.
وإلى الغرب من العراق ما زال التنظيم يسيطر على:
القائم: قضاء عراقي يقع على الحدود العراقية السورية بمحاذاة مدينة البوكمال السورية، يقطنه زهاء 200 ألف نسمة من العرب السنّة، ويفرض “داعش” على من تبقى منهم في المنطقة إقامة جبرية.
عنة: مدينة صغيرة تقع على ضفاف الفرات إلى الغرب من الأنبار، يقطنها نحو 50 ألف نسمة من العرب السنّة، ويتخذها التنظيم حالياً معقلاً رئيسياً له.
راوة: تقع مدينة راوة في الطرف الثاني من مدينة عنة غرب الأنبار، ويسكنها نحو 40 ألف نسمة من العرب السنّة. يفرض التنظيم سيطرته عليها بشكل محكم، وفشلت حملات عسكرية سابقة للجيش العراقي في السيطرة عليها.
آلوس: مدينة صغيرة عبارة عن شبه جزيرة يحيط بها نهر الفرات من ثلاثة اتجاهات. تقع إلى الغرب من الأنبار وتُعتبر إحدى مدن أعالي الفرات. يبلغ عدد سكانها نحو 30 ألف نسمة واشتهرت عراقياً في العقود الماضية بمصنع العلماء والشعراء. تقع تحت قبضة التنظيم مع أهلها حتى الآن منذ منتصف عام 2014.
سيناريوهات الهجوم
أكدت مصادر عسكرية، في وزارة الدفاع في بغداد، أن القوات العراقية تبحث خريطتي طريق نحو تحرير تلك المدن، الأولى تقوم على بدء الحملة على المحور الشمالي لانتزاع تلعفر والبلدات الثلاث القريبة منها قبل الانتقال إلى ساحل الشرقاط الأيسر في صلاح الدين ثم إلى الحويجة في كركوك ومن ثم الأنبار حيث مدن وبلدات أعالي الفرات، في الوقت الذي تفضّل فيه قيادات عسكرية أخرى تقسيم الجهد العسكري إلى شمالي وغربي والمهاجمة في الوقت نفسه، وهو ما لا تفضله القوات الأميركية بسبب الجهد الإضافي الذي سيتطلب منها تأمين مظلة جوية للقوات العراقية في محورين متباعدين تماماً.
وكشفت المصادر ذاتها عن أن “خطة تحرير تلعفر باتت جاهزة، وأنّ رئيس الحكومة حيدر العبادي استلم الخطة من جهاز مكافحة الإرهاب، والذي من المفترض أن يتولّى مهمة تحريرها، بإسناد من قبل الأجهزة الأمنية الأخرى”، موضحة أن ” الحشد ما زالت تضغط باتجاه دخول البلدة، وأنّ يكون لها الدور الرئيسي في عملية التحرير، الأمر الذي جعل الموقف حساساً للغاية، ما قد ينتج عنه خلاف قد يعرقل عملية التحرير، خصوصاً أن دخول الحشد سيفرض واقعاً سيئاً تصعب معالجته”. ورجحت المصادر أن يتم حسم كل تلك المناطق مع الربع الأول في العام المقبل على أبعد تقدير.
من جهته، أكد الخبير العسكري، سلمان اللهيبي، أن “هذه المساحات التي حررتها القوات العراقية والتي ما زالت تخضع لسيطرة تنظيم داعش، تحتاج إلى وقت طويل لانتزاعها منه”. وأوضح اللهيبي، في حديث مع “العربي الجديد”، أنّ “داعش ضعف كثيراً في العراق، بعد المعارك التي خاضها منذ العام 2014، والتي تسبّبت بخسارة كبيرة له وانتزاع مساحات واسعة من قبضته”، مستدركاً “لكن في الحقيقة التنظيم ليس من التنظيمات السهلة، والمناطق التي يسيطر عليها تتميّز بحساسيتها ووعورتها جغرافياً، الأمر الذي قد يعطّل إمكانية الحسم لعدّة أشهر أخرى”.
وأوضح أن “معركة تلعفر تُعدّ من المعارك الحساسة والخطيرة، والتي قد تعقّد المشهد الأمني بشكل كامل، خصوصاً أنّ الحشد تخطط لدخولها على الرغم من الرفض الحكومي ورفض الأهالي”، مضيفاً أنّ “الحويجة أيضاً لا تقلّ خطورة عن تلعفر، خصوصاً أنّها تحتاج إلى توافق سياسي بين الأكراد والحكومة والحشد الشعبي، الأمر الذي يعرقل إمكانية الحسم السريع”. وأشار إلى أنّ “محافظتي صلاح الدين والأنبار ستكونان الأسهل من تلعفر والحويجة، بسبب عدم وجود خلاف سياسي، لكنّ الصعوبات ستكون جغرافية بسبب وعورة تلك المناطق”.