خطاب النصر في الموصل وتداعياته

علاء اللامي

ألقى حيدر العبادي خطاب النصر من قلب الموصل، ومن ميدان المعارك الحقيقي، وكان محاطاً بالقيادة العسكرية الميدانية، ولم يسجل حضور أي من ساسة النظام والمسؤولين المدنيين بمن فيهم وزير الدفاع. جاء البيان متأخراً 48 ساعة على الموعد المتوقع، ما جعل فرحة الجماهير العراقية بالنصر تبهت وتأتي شاحبة بعض الشيء. وقد خلا الخطاب من أي تفسير لهذا التأخير ولو على سبيل مجاملة الرأي العراقي العام، سوى ما قاله العبادي نفسه بعد وصوله إلى المدينة من أن القوات وصلت إلى «الأشبار الأخيرة من عملية التطهير»، وأنه سيؤجل إلقاء بيان النصر احتراماً للمقاتلين الذين يقومون بتلك العملية.

غير أن هناك من جمع بين هذا التأجيل وبيان آخر لمسؤول أميركي تحدث عن وجود مئات الأمتار لا تزال أمام القوات العراقية لتصل إلى ضفاف نهر دجلة من جميع محاور القتال، الأمر الذي كذبته بالصوت والصورة القنوات الفضائية التي كانت تنقل وقائع المعارك مباشرة! هذا التأجيل، فسره البعض بحوارات «ضغوطات» اللحظات الأخيرة بين القيادة السياسية العراقية ممثلة بالعبادي وبين الأميركيين وما تمخض عنه من صيغة «وسطية» للبيان.
أكد العبادي في بيانه المرتجل أكثر من مرة عراقيةَ النصر، تخطيطاً وتنفيذاً وإنجازاً وقيادة، وبهذا فقد نفى بصريح العبارة مشاركة أي جندي أجنبي في القتال الفعلي على الأرض، فقطع الطريق على واشنطن وأصدقائها من عراقيين وغير عراقيين ممن كانوا سيسارعون بعد انتهاء المعركة إلى الحديث عن البطولات الوهمية ومشاركات مبالغ فيها للقوات الأجنبية، وهو ما فعله الرئيس الفرنسي حتى قبل أن يلقى العبادي خطابه. فقد وجه ماكرون تحياته «لجميع القوات التي شاركت في تحرير نينوى» من دون الإشارة إلى القوات العراقية بالاسم بل ذكر قواته الفرنسية وحسب.

في بيانه، لم يذكر العبادي أسماء الجهات العراقية المقاتلة حين وجه الشكر إليها، واكتفى بذكر عبارة (المقاتلين الشجعان الذين ينتمون إلى صنوف القوات العراقية المنتصرة) من دون الدخول في المسميات. وهذه النقطة يمكن أن تحسب له لكونها تساعده على تفادي الدخول في مفاضلات ومقارنات لا ضرورة لها بين القوى المتعددة. غير أن وجود ضابط من قوات البيشمركة التابعة لحزب السيد مسعود البارزاني، وعدم وجود ممثل للحشد الشعبي أو للحشد العشائري، كان له تفسيراته السلبية، خصوصاً أن بعض المراقبين والحاضرين أكدوا انسحاب ممثل البيشمركة الكردية لدى إنشاد النشيد الوطني العراقي واختلاطه بجمهور المقاتلين خلف القيادة.
كذلك لم يذكر العبادي أسماء الدول الأجنبية التي ساعدت حكومته، فلم يذكر اسم أميركا أو إيران أو غيرهما، واكتفى بتوجيه شكر عام وشامل إلى جميع الدول التي قدمت المساعدة للعراق، ويبدو أن هذه الصيغة كانت جزءاً من الحل الوسط الذي اتُّفق عليه.
أكد العبادي في خطابه أن جميع المحافظات العراقية قدمت التضحيات من أجل الوصول إلى هذا النصر، ويمكن اعتبار هذا التلميح رداً غير مباشر، ولكنه موفق، على من يروجون لتضحيات جهة ما أو محافظة ما على حساب محافظات أخرى.
لكن خلو الخطاب من التشديد على وحدة العراق، في وجه المخططات التقسيمية القائمة والمتفاقمة، برغم ورود عبارة صغيرة لمح فيها لهزيمة وإفشال جهود من عملوا على «تفريق العراقيين»، يمكن اعتباره تفريطاً بهذه المناسبة لتسجيل موقف من هذه القضية الخطيرة وإرسال رسالة حول الموضوع لمن يعنيه الأمر.
كذلك خصَّ العبادي مرجعية السيد السيستاني بالشكر في عبارة خاصة، ذكَّر فيها بفتوى «الجهاد الكفائي» وامتدح أثرها، برغم أنه لم يوجه الشكر لمقاتلي الحشد الشعبي، ولم يذكر مؤسستهم بالاسم كما أسلفنا، وهم الأحق بالذكر، لأنهم هم الذين دفعوا ضريبة الدم، وقاتل فصيل منهم في معارض تحرير المدينة. ربما كان الأكثر دبلوماسية وعدلاً هو أن يسير العبادي على خط العموميات في توجه الشكر كما فعل منذ البداية فلا يذكر أية أسماء محددة، خصوصاً أن ذكر المرجعية الدينية الشيعية في مناخ الاستقطاب والشحن الطائفي المتفاقم قد يثير حساسية معينة تؤثر سلباً بأية محاولات لترطيب الأجواء وتفريغ جزء من ذلك الشحن، قد يراعي خصوصية مدينة الموصل ذاتها ويتساوق مع «النبرة الوطنية» التي طبعت لغة البيان عموماً والتي تتماشى مع واقع وطبيعة المجتمع العراقي التعددي المتنوع وغير المتكون من طائفة أو قومية واحدة.
ويبدو واضحاً، أن الانتصار العسكري في الموصل، وانتهاء العمليات العسكرية فيها يعني حتماً انتقال جدول العمال العسكري إلى مهمات أخرى. أولى هذه المهمات ستكون تطهير مدينة تلعفر التابعة لمحافظة نينوى التي تطوقها من فترة طويلة قوات الحشد الشعبي. وقد منعت هذه القوات من اقتحام المدينة وتطهيرها بأوامر أميركية مباشرة، تزامنت مع تهديدات تركية في الاتجاه الرافض لتطهير المدينة، برغم أن العبادي كان قد أعلن تشكيل قوات خاصة من الحشد تعود إلى جميع مكونات المدينة المجتمعية، وليس من خارجها لتفادي الاعتراضات التركية. ولكن ذلك لم يكن كافياً لتعطيل الفيتو الأميركي الذي يرى في الحشد الشعبي قوة معادية، وكان رضوخ العبادي لهذا الابتزاز الأميركي التركي سلبياً وخطيراً، خصوصاً إذا طال أمد تأجيل المعركة، ولم يُستغَلّ الزخم المعنوي الكبير المتولد عن الانتصار في الموصل.
قضية أخرى كانت موضوع جدال ومناكفات سياسية، هي نسبة التدمير العالية التي تمخضت عنها المعارك في الحي القديم من الجانب الأيمن من الموصل.
إن هذا الحي القديم، الذي يمتد عمره قروناً عدة، ذو بنية عمرانية هشة ومتهالكة أصلاً، وقد حذر الكثيرون قبل بدء الهجوم عليه من أنه سيتعرض لدمار كبير. زد على ذلك أن مسلحي «داعش» قرروا أن يجعلوا منه معقلهم الأخير في ظروف التطويق الشامل والكامل، و«تبايعوا» فيه ما يسمونها «بيعة الموت» وقاتلوا قتال المستميتين. ومع ذلك لا يمكن مناقشة موضوع تدمير هذا الحي من دون وضع الحدث ككل في سياقه. وفي هذا السياق يجب تسجيل أن الطيران الأميركي قد ارتكب العديد من المجازر من خلال قصف طيرانه ومدفعيته، وحدث أن وقعت أخطاء من قبل القوات العراقية. ولكن، كخط عام، أصرت القيادة العراقية منذ بداية العمليات العسكرية على أنها لن تعتمد الطريقة الأميركية في تحرير المدينة بعد تدميرها بالكامل كما حدث في مدينة كوباني/عين العرب في سوريا، أو كما حدث في الرمادي العراقية، بل كما حدث في تكريت والفلوجة والعديد من مدن محافظة صلاح الدين وبلداتها، حيث كانت نسبة التدمير بحدود عشرة إلى عشرين بالمئة من البنى التحتية. كان القتال في أحياء الموصل يجري غالباً وخصوصاً في الأشهر الأخيرة من شارع إلى أخر ومن بيت إلى بيت ودفعت القوات العراقية تضحيات غالية وكبيرة، ولكن برغم ذلك، فنسبة التدمير في الحي القديم جاءت مؤلمة وكبيرة وصادمة بعكس الحال في أحياء أيسر الموصل التي لم يتضرر بعضها بنسب كبيرة، وعادت فيها الحياة إلى طبيعتها. والحقيقة أن التدمير في الموصل قد بدأ فعلياً منذ سيطرة تنظيم «داعش» عليه، وقيامه بالعديد من عمليات التدمير الممنهج خلال سنوات سيطرته الثلاث على المدينة، وبدأ التدمير بنسف دور العبادة ومقامات وقبور الأنبياء والمتاحف ومحتوياتها وانتهت بتفجير الجامع النوري ومنارته الحدباء في قلب الحي القديم تفجيراً هائلاً أتى على المسجد وأجزاء واسعة من الحي كما نقلت وسائل الإعلام بعد انجلاء غبار المعركة.
لقد تحولت نسبة الدمار في الحي القديم في أيمن الموصل إلى موضوع مستقل في الإعلام العربي والخليجي خصوصاً، وبادر بعض المعارضين العراقيين إلى تفريغ النصر من مضمونه بدعوى حدوث عمليات إبادة وتدمير شامل كما غرد السيد طارق الهاشمي الفارّ من العراق والمقيم في تركيا والمحكوم بالإعدام في قضايا إرهاب، حيث كتب المذكور على منصة «تويتر» (في المعايير العسكرية عندما يقتل المدنيون، وتهدم الموصل، وتسوى أبنيتها بالأرض تكون العملية العسكرية فاشلة حتى لو انتهت بالقضاء على «داعش»).
جاءت ردود الفعل العربية الرسمية مخيبة لآمال العراقيين الرسميين والشعبيين، فلم تبادر أغلب هذه الدول ورؤساؤها إلى التهنئة بنصرهم الكبير والغالي. أما في الإعلام العربي، فقد طغت موجات من التشكيك والاستهانة بالانتصار العراقي وبولغ في نسب التدمير من قبل الصحافة السعودية والخليجية عموماً، فجاءت مانشيتاتها مركزة بالكلمة والصورة على «أنقاض الموصل» ونسب التدمير فيها، وهي حتى هنا تكذب وتتخلى عن المهنية وشرف العمل الإعلامي حين حولت حياً واحداً متضرراً بشدة إلى «مدينة الموصل» المؤلفة من عشرات الأحياء. وهي الصحف نفسها التي سكتت طويلاً على جرائم تنظيم «داعش» بحق الموصليين قبل غيرهم. ولم تشذّ وكالات أنباء دولية شهيرة مثل «رويترز» عن هذا المسلك، فقد نشرت تقريراً بعد تطهير الموصل وصفت فيه ما حدث بأنه «ارتخاء قبضة الدولة الإسلامية» وليس تحريراً لثاني مدينة في العراق جعلتها «داعش» عاصمة لها! ثم نشرت «رويترز» في اليوم نفسه تقريراً آخر عن أن ما دعته «تنظيم الدولة الإسلامية» قد أحكم قبضته على قرية جنوب الموصل، واستمرت تروج في تقاريرها لما قاله دبلوماسيون غربيون بأن (المخاوف الآن قد تصاعدت من سيطرة إيران على المنطقة) ثم نشرت الوكالة تقريراً لمنظمة العفو الدولية تعدد فيه انتهاكات القانون الدولي في الموصل من قبل القوات العراقية ضمن تقرير أشمل! لقد كشفت وسائل الإعلام المرئية، ومنها قناة «أخبار الآن» في تقرير مصور وموثق لها بث بعد انتصار الموصل عن أن مسلحي التنظيم دفنوا في مقبرة واحدة فقط هي «مقبرة الخسفة» أكثر من خمسة وعشرين ألف ضحية من أهالي الموصل والقوات الأمنية. فهل تطرق أحد من عرب الإعلام أو إنسانيي المنظمات الدولية إلى هذا الكشف الصاعق والصادم، أم أن خمسة وعشرين ألف موصلي وعراقي لا يعنون لهم شيئاً؟!
* كاتب عراقي