بين الموصل والدوحة
عامر محسن
حين زرت الموصل للمرّة الأولى، كانت أيّام الحصار و«مناطق الحظر الجوّي»؛ وكنت تسمع صوت الطّيران الأميركي في محيط المدينة بشكلٍ شبه يوميّ، وكان في وسعك ــ من أطراف المدينة ــ أن ترى أعمدة الدّخان تتصاعد حين تضرب القاذفات موقعاً في الصّحراء. حينها، كما الآن، كان الطّيران الأميركي يقتل بلا سبب، ويرتكب أموراً من نوع قصف ديرٍ في شمال العراق وقتل رهبانٍ فيه، من دون أن يعرف أكثر العالم بالأمر، أو تحصل ادانة، أو حتى اعتذار – ناهيك عن أن يعاقَب أحدٌ على قتل الأبرياء.
اليوم، عادت هذه الطائرات لتقصف الموصل نفسها هذه المرّة، وتهشّم ــ بالتعاون مع «داعش» ــ أحياءً في المدينة، وتدمّر أكثر المدينة القديمة.
علّق صديقٌ بأنّه، رغم الارتياح لتحرير الموصل من «داعش»، فإنّه من العسير على المرء أن «يفرح» بتحرير مدنٍ مثل الموصل وحلب، حين يكون ثمن التحرير آلاف الضحايا الأبرياء، ومثلهم شهداء شباب قضوا في حربٍ لم تكن إجبارية، وتترك المعركة أجمل مدنك وأعرقها ركاماً مدمّراً. خرجت الموصل من الحرب وقد خسرت، الى جانب الكلفة البشرية والمادّيّة، بعضاً من أهمّ معالمها التي طالما شكّلت هويّتها وطابعها: من موقع «النمرود» الذي يعود الى فجر الحضارة وصولاً الى الجسر الحديدي الذي بناه البريطانيّون. ما يثير الاستفزاز أكثر، أضاف الصديق، هو أن تصبح عواصم مثل الدوحة وابو ظبي والرياض تتحكّم بمصائر عشرات الملايين من العرب، وتشعل الحروب في بلادنا، وتساهم في إحراق مجتمعاتنا وحواضرنا فيما هم يبنون مدناً من زجاجٍ وبلاستيك (من هنا، لو كان لا بدّ من خيار، لكان من الأفضل لو أنّنا «انهزمنا» بدلاً من هذا «الانتصار»، وكانت جيوش الخليج هي التي تحرّر دبي، مثلاً، بعد أن أصبحت ركاماً منهوباً).
المسألة لا علاقة لها بالنرجسيّة التي تمارسها بعض النّخب المشرقية تجاه شعوب الخليج (كأنّهم شعبٌ والخليجيون شعبٌ مختلف، وكأنّ الخليج «صحراء وقحط وتخلّف» فيما المشرق اليوم يمثّل منارةً للحضارة والانسانية). المسألة تتعلّق حصراً بطبيعة أنظمة الخليج، ونخبها الحاكمة وسياساتها ودورها في بلادنا؛ وتتعلّق بمفهوم العدل والمنطق، وأنّه لا يجوز لعائلة (أو فرعٍ من عائلة) تحكم بلداً أن تدمّر حياة الملايين، وتموّل تخريب البلاد من ليبيا الى العراق، ويصدّر إعلامها الحرب الاهلية والكراهية مثلما ترسل مخابراتها شحنات السّلاح. هذا الحال ليس الّا صورةً مصغّرة عن النّظام العالمي، تجري على مستوى المنطقة، ولا يجوز لها أن تستمرّ.
الحرب الاهلية العربيّة
كتب الأكاديمي كريستوفر دايفيدسون، عام 2012 وقبل الأزمة النفطيّة، كتاباً يحاجج فيه بأنّ ممالك الخليج هي على طريق الانهيار، بل وإنّ استفحال أزماتها هو مسألة قريبة، ستحصل خلال أقلّ من عشر سنوات. زار دايفيدسون الخليج، وعاش سنواتٍ ودرّس في الامارات، وتعرّف الى النّظام والمجتمع والمسؤولين، وقرّر، ببساطة، أنّ هذا النظام وأشباهه من المستحيل أن يستمرّ. فصّل دايفيدسون العديد من المجالات التي تراكم فيها هذه الحكومات الريعية، منذ عقودٍ، أزمات بنيويّة لن تلبث أن تواجه موعد دفع فواتيرها؛ من سوق العمل والعجز عن تنويع الاقتصاد وصولاً الى الديمغرافيا والعمالة الأجنبية والنظام السياسي والعلاقة مع المحيط (يقول دايفيدسون إنّ الجيل الجديد من أمراء الخليج لا يلتزم، كآبائه، سياسة «تصالحية» تسعى الى تحييد المنطقة عن شؤون الخليج وليس الهيمنة عليها، وتكتفي بالتدخّل عبر المال والمساعدات والإفساد، بل إنّ جيل الأبناء لا يستنكف عن اتّباع سياساتٍ عدوانية ومدمّرة مع شعوبٍ تحيط بهم وتفوقهم عدداً بكثير).
المصيبة، اذاً، هي أنّه لدينا حكوماتٌ غير قادرة على بناء مشاريع حكمٍ ناجحة ومستدامة، وبلادٍ متقدّمة وحصينة، ولا هي تتركنا في حالنا أو تقيم حدوداً وترعى حرمة. ولكنّ هناك عنصراً في المعادلة لا يذكره دايفيدسون وهو يشرح عمق المشكلة في أنظمة الخليج. حين نتكلّم على تنويع الاقتصاد أو بناء اقتصادٍ ناجحٍ أو تدريب العمّال وتشغيلهم، فإنّ المسألة (كما في خيارات السياسة) لا تقتصر ببساطة على «خيارات خاطئة» أو يمكن أن تفسّر عبر سياسات الهدر والفساد. هناك عنصرٌ بنيويّ هنا: بصرف النظر عن حاجات السعوديّة، مثلاً، وإمكانتها، هل يمكن أن نتخيّل أن تقبل واشنطن بحاكمٍ سعوديّ يأخذ بزمام الثروة الوطنيّة، ويطلق تنمية سياديّة، وينفق عائدات النفط في الداخل بدلاً من الاستيراد وشراء السّلاح، وينشىء صناعات محليّة مستقلّة عن الشركات الغربيّة، ويصنع سلاحاً متقدّماً بنفسه، لا تتحكم به اميركا، ويصدّره لمن يشاء؟ (بالمناسبة، هذا يسيرٌ لو كانت هناك ارادة، نظراً للموارد السعودية وعلاقات المملكة بالعالم، بل إنّك قادرٌ ــ نظرياً ــ على شراء شركة سلاح عالمية كبيرة، بحجم «ساب» السويدية أو «جيات» و«تاليس» في فرنسا، بجزءٍ من ثمن إحدى الصفقات الكبرى التي يعقدها الحكّام السعوديون مع اميركا، وهذه الشركات تصنع كلّ أشكال السّلاح).
المقصد هنا هو أنّ طبيعة العلاقة مع الغرب، ومصالح اميركا وبنية النظام في الخليج، تمنع هذه الدول من حلّ مشاكلها العميقة أو اعتماد سياسياتٍ سياديّة؛ ولو خرج ــ فرضاً ــ قائدٌ خليجيّ استقلالي النّزعة، فهو لن يصل الى الحكم أو ستخلعه واشنطن وحلفاؤها. من هنا، فإنّه من العبث أن تتوقّع «استدارةً ناصريّة» لدى الأنظمة الحاكمة في الخليج، أو حتّى أن تؤدّي التناقضات بينها الى الابتعاد عن المحور الأميركي واشراف واشنطن. الموضوع ليس خياراً. في الأزمة الخليجية القائمة، مثلاً، يمكنك أن تنسى كلام الإعلام عن «تقاربات» و«تحوّلات»، فأميركا تملك ورقة الحسم: يكفي، مثلاً، أن تعطي واشنطن الضوء الأخضر وموافقةً حتّى يحصل تغيير للنّظام في الدّوحة، أو توضع قطر ــ مثل البحرين ــ تحت الوصاية السعوديّة، ولن يقوم أحدٌ في العالم بمعارضة أو ممانعة هذا الواقع بشكلٍ فعّال، ولن يحصل قتالٌ ومقاومة. القطريّون، قبل الجميع، يعرفون هذا الواقع جيّداً وهذه الأزمة لن تزيد الّا من التصاق الأنظمة بالرّاعي الأميركي وضماناته.
لا أطرف من نظريّة «استقطاب» نظامٍ خليجيّ الّا النظريّة القائلة بأنّ الفارق بين قطر وخصومها الخليجيّين هو أنّها تدعم «الشعوب» والديمقراطية و«الربيع»، فيما الباقون يقمعون الشعوب ويقتلون الثورات. هذه مسألة وقائع بسيطة: الدوحة، على طول المنطقة العربية، قد دعمت حركاتٍ شعبية في وجه أنظمة في أماكن، ودعمت الأنظمة في أماكن أخرى، تماماً مثل كلّ دولةٍ رئيسية في هذا النّزاع، ولا مجال للمفاضلة في هذا الإطار. العامل الوحيد الثابت في سياسات قطر في المنطقة هو ليس دعم الشعب (الّا إن كنت تفترض أنّك انت «الشعب») بل ببساطةٍ دعم «الإخوان» في كلّ مكان، من سوريا الى تونس، سواء كانوا حكّاماً منتخبين أم ميليشيات. وحين لم يكن لهم حصانٌ في الحرب، موّلوا ميليشيات سلفيّة وطائفيّة. الآن الأوراق كُشفت والحرب وقعت والموصل، مثل حلب وغيرها كثير، يتصاعد منها الدّخان، والمقولة الشهيرة (والمعبّرة) التي قالها أمير قطر السّابق ــ وخرجت في «ويكيليكس» ــ عن طبيعة علاقته بمحور المقاومة («يكذبون علينا ونكذب عليهم») هي نظريّة، أعتقد، انتهت صلاحيتها.
عن الذاكرة والحقيقة
مع نهاية المعركة مباشرةً، انطلق الإعلام الخليجي ــ الذي يغطّي ويبرّر كلّ الحروب الأميركية في منطقتنا، ليصنع جوّ حدادٍ على تحرير المدينة، تحت دعوى الحزن على الأضرار والضّحايا (هذا بعد أن دعموا قيام «داعش» في العراق، وفرحوا لاحتلالها الموصل، والأرشيف موجود). المثير في الأمر هو أنّ أكثر الهجوم يتركّز على «الحشد الشعبي» على الرّغم من حقيقةٍ بسيطة، وهي أنّ «الحشد» لم يشارك مطلقاً في معارك الموصل، واستلمت المواجهة وحداتٌ معروفة من الجيش العراقي، ومن ينسّق مع الأميركيين وطيرانهم هي الحكومة العراقيّة برئاسة حيدر العبادي (ولمن يريد أن يعرف موقف «الحشد» من ذلك فما عليه الّا أن يستمع لقادته، كأبو مهدي المهندس الذي كرّر مؤخراً، للمرة الألف، أنّهم لا يريدون التدخّل الأميركي ولا يحتاجونه، وهم يتّهمون الأميركيين مباشرةً بدعم «داعش» والسعي الى إطالة أمد الحرب والأزمة في العراق).
بمعنى آخر، هم لا يهاجمون اميركا التي قصف جيشها الموصل وضرب أحياءها، ولا «داعش» التي احتلّت المدينة وفجّرت معالمها وسبت نسائها وعاملت أهلها كالعبيد، ولا يهتمّون حتى بتركيز الهجوم على الجيش العراقي والحكومة (والنظام السياسي في العراق هو هدفٌ سهلٌ، ومستحقّ، للانتقاد والهجوم). بل هم يبثّون غيظهم على «الحشد» تحديداً ــ ربّما لأنهم يعرفون دوره في هزيمة مشروع «داعش» ــ تماماً كما حصل منذ أسابيع، حين خرج تحقيقٌ صحافي ألماني في «دير شبيغل» يزعم حصول انتهاكاتٍ وتعذيبٍ على يد القوات العراقية في الموصل. على الرّغم من أنّ كاتب التقرير قد شرح بوضوح اسم الوحدة التي كان يرافقها، وهي من الجيش العراقي، فإنّ الإعلام الخليجي ــ الذي تلقّف التقرير بحماسةٍ وحبور، بصرف النّظر عن مضمونه ومصداقيته ــ استخدم الحادثة مجدّداً ليتّهم «الحشد» (بل أنّه، بدلاً من مواجهة حقيقة الرعب الذي بثّته «داعش» في المجتمع، والاعتراف بدورهم في ما حصل، تظهر نظرياتٌ في الإعلام الخليجي تدّعي بأنّ «داعش» كانت مجرّد «وهمٍ»، وحجّةٍ شيطانية لتدمير الموصل، وأن «الجثث لم تظهر» كأنّ أشهراً من القتال، وآلافٍ من الشّهداء، ومئات السيارات المفخّخة، كانت كلّها من فعل أشباح).
هذا الواقع يعكس علامةً معبّرة (بعيداً عن سؤال الصدق والكذب و«النزاهة» الإعلامية)، وهي أنّ نخب الخليج تعرف عدوّها الحقيقي، وأنّ «الحشد» ونموذجه هو التهديد الفعلي لها، لا الأميركيين ولا «داعش» ولا الحكومات، وهو الذي يقدر على هزيمة مشاريعها في المنطقة ووضع حدٍّ لها ــ ظلّ أن يفهم من يستشهد شباب «الحشد» لأجلهم ولأجل حمايتهم، بالمثل، من هو صديقهم الحقيقي. الأساس اليوم، فيما «داعش» يطلق زفراته الأخيرة على أرضنا، أن نصون الذاكرة، وأن نتذكّر كلّ من شارك في الحرب علينا، ليس بهدف الانتقام والاقتصاص (وهو شعورٌ طبيعيّ وشرعي، بالمناسبة)، بل لكي لا يتشابه ما بعد الحرب مع ما كان قبلها. وعلينا أن نتذكّر، قبل كلّ شيء، الشهداء الذين قضوا وهم يبارزون احدى أبشع الحركات التي أنتجها تاريخنا، وينقذوننا جميعاً من قدرٍ كالح. والشّهداء الحقيقيون، في لبنان كما في العراق، لا يحفظ ذكراهم في العادة غير أهلهم ورفاقهم، ومن يكمل عنهم الدّرب، وتتجاهلهم النّخب وتهملهم ــ هذا إن لم تنبذهم ــ وفي ذلك شرفٌ لهم، وتأكيدٌ على سموّ الشهادة.