الأزمة الخليجيّة بدايةُ الانفراج الكبير لنظيرتها السوريّة.. فمَن كان يتوقّع عرضًا قطريًا بإقامة قاعدة إيرانية إلى جانب القاعدتين الأمريكيّة والتركيّة؟ ولماذا يتحدّث الأسد مرّتين عن مُحاربة الفساد في غُضون عشرة أيّام؟ هل نحن أمام “سورية جديدة”؟
عبد الباري عطوان
اعترف الرئيس السوري بشار الأسد بأنّ الفساد يتغلغل في سورية من خِلال الثغرات في القوانين، ويجب استئصاله وتطبيق القانون على الجميع دون استثناء، وذلك أثناء لقائه بالسيّدة آمنة المشاط، رئيس الهيئة المركزية للرّقابة والتفتيش، ويتزامن هذا الاعتراف مع عدّة تطوّرات على الأرض وميادين القتال تُؤكّد تقدّم الجيش السوري، وضعف المُعارضة بشقيها السّياسي والمُسلّح، وخسارة “الدولة الإسلامية” للمُوصل عاصمتها العراقية، واشتداد الخِناق على قوّاتها في الرّقة ودير الزور.
هذه هي المرّة الثانية في أقل من أسبوعين يتطرّق فيها الرئيس السوري لمسألة الفساد وانتشاره في البلاد وضرورة اجتثاثه، الأمر الذي فسّره الكثير من المُراقبين على أنه دليل ثقة، وتجاوز النظام عُنق الزجاجة، وتماسك مؤسسات الدولة وهياكلها الرئيسية، ومُؤشّر على البدء في النظر إلى المُستقبل لوضع أُسس بناء “سورية جديدة” على أسس جديدة، تتجنّب أخطاء الماضي وما أكثرها، وأبرزها تغوّل الأجهزة الأمنيّة، واستفحال الفساد والمحسوبية، وغِياب الحُريّات بأشكالها كافّة، وسَيطرة الحزب الواحد والبرلمان غير المُنتخب.
***
عندما تولّى الرئيس الأسد السلطة خلفًا لوالده كان حريصًا في أيّامه الأولى على وضع برنامج سياسي واقتصادي طَموح يستأصل الفساد، ويُحقّق المُساواة، ويضع خُطط، تنمية اقتصادية طموحة، لكن هذه الوعود تبخّرت في مُعظمها، ولم يتم تطبيق إلا القليل منها، ويعتقد كثيرون أنّ السبب هو مُعارضة مراكز القوى الرئيسية، والأجهزة الأمنية خُصوصًا، الأمر الذي انعكس سلبًا على أمن البلاد واستقرارها، وأحدث ثغرات جرى استغلالها من قِبل القوى الغربية والعربية وتوظيفها في دعم مُعارضة بشقيها السياسي والمُسلّح، بهدف الإطاحة بالنظام ورأسه ومُؤسّساته على غِرار ما حدث في العراق وليبيا واليمن ومصر وتونس.
الدّولة السورية صَمدت طِوال السنوات السبع الماضية تقريبًا بسبب التفاف الجيش السوري حولها، ووعي قِطاعات عريضة من الشّعب للمُخطّط الذي يُريد تقسيم البلاد وتفتيتها جُغرافيًا وديمغرافيًا على أُسس عِرقية وطائفية، ولا نعتقد أن دولة في التّاريخ تعرّضت للضغوط والمُؤامرات التي واجهتها الدولة السورية، خاصًّة أن دُول عُظمى، دولية وإقليميّة كانت المُحرّك والداعم لمُخطّطات التفتيت هذه.
الأزمة الخليجية الحاليّة المُتفاقمة، يُمكن أن تكون أحد ثِمار صُمود الجيش السوري وهياكل الدولة معًا في وجه مُخطّطات التفتيت والتقسيم، فعندما فشلت دُول خليجية رئيسية مثل قطر والسعودية في تغيير النظام في سورية، بدعم أمريكي تُركي أوروبي، رغم ضخ مِليارات الدولارات وآلاف الأطنان من الأسلحة، وارتد “سِحرها” عليها، واشتعلت في خلافاتها السياسية والقبلية، ولم يعد لديها الوقت لمُواصلة تدخّلها في الملف السّوري، ودعم المُعارضة المُسلّحة التي موّلتها للإطاحة بالنّظام.
السيّد عادل الجبير، وزير الخارجية السّعودي، الذي دَخل التّاريخ السياسي بجُملته الأثيرة حول “رحيل النّظام السوري سِلمًا أو حربًا”، تخلّى عن هذه النغمة كُليًّا، وبات يُطالب برحيل النّظام القطري الشّريك الأساسي لحُكومة بلاده في الملف السوري، وشاهدنا النّظام القطري الذي كان يُعارض بشدّة الدعم الإيراني للرئيس الأسد، ويُوظّف إمبراطوريّته الإعلاميّة الجبّارة ضدّه، للمُطالبة بخُروج القوّات الإيرانيّة واللبنانيّة التابعة لـ”حزب الله” من الأراضي السوريّة باعتبارها قوّة احتلال، شاهدناه، وعلى لسان الشيخ تميم بن حمد، أمير قطر، يتباحث مع الرئيس حسن روحاني حول تنسيق التعاون بين البلدين، عارضًا إقامة قاعدة عسكرية إيرانيّة على الأراضي القطريّة إلى جانب القاعدتين التركية والأمريكيّة.
***
من كان يتوقّع هذا الانقلاب في المواقف في الملف السوري قبل ستة أشهر، ولا نقول ستّة أعوام، لا نعتقد أن الرئيس الأسد نفسه توقّع أن تستنجد دولة قطر بإيران لحِمايتها من الجارين السعودي والإماراتي، ومعها حركة “الإخوان المُسلمين”، التي كانت رأس الحِربة في “الثورة السوريّة” لإطاحة النّظام السوري.
السنوات الست الماضية كانت كارثية بالنّسبة إلى الدولة السوريّة وقيادتها، حيث خَسر الشعب السوري ما يَقرب من نصف مليون شهيد من الجانبين، وكُلّهم أهلنا وأحبّتنا، وتشرّد أكثر من عشرة ملايين مُواطن في مُختلف أنحاء العالم ودُول الجوار، ولكن هُناك دروس كثيرة يُمكن أن تُؤدّي إذا ما جرى استيعابها إلى قيام سورية جديدة مُختلفة، تقوم على التعايش والمساواة والحُريّات الديمقراطية، سورية قويّة تعرف أصدقاءها وأعداءها، وتستعيد مكانتها القياديّة والرائدة في المنطقة والعالم.
قُلناها، ونقولها، ونُكرّرها، أن هذا الشعب السوري العظيم الخلاّق المُبدع الذي تجري في عُروقه جينات حضارية تعود إلى ثمانية آلاف عام سيَخرج من تحت رُكام هذه الأزمة أقوى وأصلب عُودًا، وأكثر تسامحًا وتعايشًا، لأنّ التسامح من شِيم الكِبار والأقوياء.. والأيام بيننا.