مشروع الخلافة في العراق ما بعد الموصل

هارون ي. زيلين

كانت معركة الموصل انتصاراً تحقق بشق الأنفس بالنسبة للعراق والتحالف ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي تقوده الولايات المتحدة. فقد كلّفت أرواحاً فضلاً عن تدمير المدينة القديمة. بالإضافة إلى ذلك، لم تقترب نهاية تنظيم «الدولة الإسلامية» كجماعة جهادية مقاتلة: فهو يستمر في شن هجمات تمرد وإرهاب مع حفاظه على بعض الحوكمة في جيوب في العراق. وفي حين أشار رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي في أواخر حزيران/يونيو إلى أن سقوط الموصل “يمثل نهاية دولة الخرافة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»”، تبقى الجماعة ناشطة في متابعة ما يسمى بمشروع الخلافة عبر البذل المستمر، وإن المحدود، لمستويات متفاوتة من جهود الحوكمة في مختلف مناطق العراق.

وبناءً على المعلومات الإعلامية الرسمية المتعلقة بحوكمة تنظيم «الدولة الإسلامية» كما تظهر في المحفوظات والوثائق، يمكن أن يستنتج المرء أن قدرات الجماعة في العراق بلغت ذروتها في صيف عام 2015. واليوم، لا يحتفظ هذا التنظيم إلا بنسبة تقدر بنحو 6.5 في المائة من قدرة الحوكمة التي كان يتمتع بها عام 2015، مما يدل على أنه حتى مع تقلّص حجمه عموماً إلى مجرد قوة متمردة، إلا أنه ما زال يحتفظ ببنًى تشبه الدولة في بعض مناطق العراق، وخاصةً في أربعٍ من الولايات التي أعلن إقامتها وهي: ولاية الجزيرة (شمال غرب العراق)، وولاية الفرات (غرب وسط العراق)، وولاية دجلة (شمال وسط العراق)، وولاية كركوك (شمال وسط العراق). وتتمتع كل ولاية بدرجات مختلفة من القوة، بينما تقع الإدارة الأكثر نشاطاً في ولاية كركوك. ولتوضيح كيفية استمرار تنظيم «الدولة الإسلامية» في حكم بعض المواقع، ستعمد هذه المقالة على دراسة بعض المواد المتعلقة بكل ولاية، بدءاً من نيسان/أبريل 2017.

من خلال تقييم الجماعة من هذه المنظار، لا بد من الإشارة إلى أنه في حين تساعد متابعة وسائل الإعلام الرسمية لتنظيم «الدولة الإسلامية» على توضيح قدرات الحوكمة الخاصة بالجماعة، إلّا أنها لا تستطيع توثيق النطاق الكامل لهذه المساعي. ومع ذلك، تعطي هذه المقاربة لمحة متسقة نسبياً عن حوكمة تنظيم «الدولة الإسلامية» عبر الزمن، كما يتضح من الاختلافات التي لوحظت في قدرات الجماعة على مدى السنوات الثلاث الماضية.

وعلاوةً على ذلك، قد يساعد فهم كيفية استمرار تنظيم «الدولة الإسلامية» في ممارسة قوته في بعض مناطق العراق على توفير خارطة طريق من أجل طرد الجهاديين من الأراضي التي ما زالوا يسيطرون عليها. كما قد يساعد هذا الفهم على تكوين فكرة عن الأماكن التي قد تسهل استعادتها، مما يؤدي إلى انتصارات أسرع تحقيقاً والمزيد من العزم. وبناءً على الأدلة المقدَّمة هنا، فإن أفضل ترتيب يمكن اتباعه إزاء الميادين الثلاثة الرئيسية الخاصة بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» هو تلعفر أولاً، ثم الحويجة، وأخيرا القائم.

ولاية الجزيرة

في ولاية الجزيرة، يُعتبر تنظيم «الدولة الإسلامية» أضعف مما هو عليه في كلٍ من “ولاياته” العراقية الأربع، فهو لا يسيطر سوى على مدينة تلعفر وضواحيها، على بعد حوالي 50 ميلاً غرب الموصل. وهذه الولاية هي أيضاً الأكثر عزلة بالنسبة للجماعة، وتحيط بها “قوات البشمركة الكردية” من الشمال والدولة العراقية من الجنوب والغرب والشرق. كما أنها ضعيفة في المقابل من ناحية الإدارة العامة، إذ لم يُصدر تنظيم «الدولة الإسلامية» أي مواد متعلقة بالحوكمة بعد نيسان/أبريل 2017. وكانت هذه المواد الأخيرة في نيسان/أبريل ضعيفة أيضاً. وهكذا، في منتصف ذلك الشهر، أطلقت الجماعة حملتيْ دعوة، من خلال قيام أعضاء تنظيم «داعش» بتوزيع الإعلانات الدعائية على سكّان تلعفر – من أقراص مدمجة لشريط مصور عن ولاية نينوى عنوانه “بقعة ضوء الجزء 2” وإلى أحدث إصدار لنشرتها الأسبوعية “النبأ”. وفي وقت لاحق من ذلك الشهر، افتخرت بالنشاط القائم في السوق المحلي في العلولية، وهي قرية في شمال شرق تلعفر.

وكان كلٌ من الدعوة وأنشطة السوق يهدف إلى إظهار الكيفية التي يقوم بها تنظيم «الدولة الإسلامية» بنشر المعرفة والأخبار، فضلاً عن استمرار قدرة السكان على التسوق تحت سيطرة التنظيم وسط اقتصادٍ محلي مزدهر. ومع ذلك، فالمخفي هنا هو احتمال أن تكون أي عملية خاصة يقودها تنظيم «الدولة الإسلامية» في مجال الخدمات والصناعات ضعيفة أو منعدمة حالياً. وأخيراً، إن غياب أي مواد متعلقة بالحوكمة على مدى الأشهر الثلاثة الماضية يشير إلى التراجع الحاد في القدرة على الحكم. ويبدو أن هذا الضعف يُثبت صحة تصاميم الحكومة المركزية في العراق والتحالف [الذي تقوده] الولايات المتحدة على استعادة هذه الأراضي، مع الإشارة من قبل البعض إلى جدول زمني يتراوح بين ثلاثين وتسعين يوماً لسقوط تلعفر.

ولاية دجلة وولاية كركوك

تشمل البقعة المعزولة الثانية التي ما زال يسيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» – والتي تتألف من مناطق في ولاية دجلة وولاية كركوك – أراضٍ داخل محافظة كركوك التابعة للدولة العراقية. وتتاخم هذه الأراضي التابعة لتنظيم «الدولة الإسلامية» المنطقة التي تسيطر عليها “قوات البشمركة الكردية” من الجهة الشمالية الشرقية والدولة العراقية من الجهة الجنوبية الغربية، وتقع على بعد حوالى أربعين ميلاً (64 كلم) إلى الجنوب الغربي من مدينة كركوك. وعلى عكس ولاية الجزيرة، تمثّل هذه المنطقة أقوى مشروع حوكمة لتنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق، على الرغم من أن عزلتها قد تجعل منها هدفاً ثانياً أفضل من الأراضي في ولاية الفرات، التي تمتد على المنطقة الحدودية بين العراق وسوريا، الخاضعة لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» على كلا الجانبين.

وداخل ولاية دجلة، يُعتبر تنظيم «الدولة الإسلامية» أكثر نشاطاً في الزاب وفي شميط – اللتين تقعان على بعد حوالى ستين إلى خمسةٍ وستين ميلاً (96 إلى 105 كلم) جنوب غرب مدينة كركوك – حيث استمر في توزيع منشورات الدعوة، وإدارة دروس الشريعة للطلاب، وقطف الفاكهة والخضراوات (البطيخ والخيار والفلفل والباذنجان والطماطم والقرع) وكذلك القمح وبيعها، وتوزيع أرباح الزكاة على المحتاجين (الأوراق المالية والحبوب) وغيرها من الأنشطة. ويسلّط ذلك الضوء على القدرة الأكبر من ناحية الخدمات والصناعة، بالمقارنة مع ولاية الجزيرة.

كما أن حوكمة تنظيم «الدولة الإسلامية» هي حتى أكثر تطوراً في ولاية كركوك، مقارنةً بولاياته الأخرى. فهناك، يبقى ناشطاً في الحويجة والرياض والرشاد ودوكمات. ففي الرشاد، على سبيل المثال، وفي أواخر حزيران/يونيو، استضاف مكتب العضوية والدعوة والتعليم التابع لتنظيم «داعش» عشيرة الزبيد القبلية. وفي الرياض، كان تنظيم «الدولة الإسلامية» يحصد القمح والشعير ويوزّع الأموال والحبوب على الفقراء عبر مكتب الزكاة الخاص به. ومن المثير للاهتمام أنه، في 10 تموز/يوليو، بعد إعلان سقوط الموصل، أصدر تنظيم «الدولة الإسلامية» مقالاً مصوراً يُظهر مكتب الدعوة الخاص به يتلقى البيعة من مناصرين في مدينة دوغمات الريفية. وربما كان الهدف هو الإشارة إلى أن الجماعة ما زالت قائمة، وتستمر في كسب أتباع جدد، وإلى أن سقوط الموصل كان مجرد عقبةً وليس نهايةً.

وختاماً، في الحويجة، حيث يبدو أن قوة تنظيم «الدولة الإسلامية» تبلغ ذروتها في العراق، قامت الجماعة بإشعال السجائر التي صادرتها دوريات “الحسبة” (الشرطة الأخلاقية)، وعرضت سوق مركزية مزدحمة، ووزعت القمح على الفقراء من خلال مكتب “الزكاة” التابع لها، ونظفت الشوارع المقصوفة عبر مكتب خدماتها، وبنت سوقاً جديدة، وسقت النباتات، ولقّنت الأطفال دروساً في حفظ القرآن، وحصدت المحاصيل (المشمش والقرع والخيار والفلفل والبامية والباذنجان والطماطم) وباعتها، ووزعت سجلات الدعوة، وراقبت قمر الهلال الجديد في بداية شهر رمضان المبارك وسجلته، وعقدت لقاء بين قادة قبائل الحويجة ومكتب العلاقات العامة الخاص بها، من بين مبادرات أخرى. وبالتالي، تبقى إدارة تنظيم «الدولة الإسلامية» قوية جداً في ولاية كركوك وفي مدينة الحويجة على وجه الخصوص، بينما لم تكن قد بلغت ذروتها قبل بضع سنوات.

ولاية الفرات

أخيراً، من الجهة العراقية لولاية الفرات التابعة لـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، كانت الجماعة أكثر نشاطاً في في مدينتي القائم وراوة. فهناك، يستمر الأعضاء في تنظيم رحلات صيد وبيع غلّتهم في الأسواق، ورش المبيدات في الحقول الزراعية، وإدارة شركات تصنّع المثلجات وبيعها، وحصاد وبيع الفواكه مثل المشمش. ويشير ذلك إلى أن جزءاً كبيراً من تركيز تنظيم «الدولة الإسلامية» ينصب في هذه المنطقة على ضمان حصول السكان على الغذاء الكافي.

وعلى الرغم من أن حوكمة تنظيم «الدولة الإسلامية» على الجهة العراقية لولاية الفرات لا تُظهر الفطنة نفسها كما في ولاية كركوك، إلّا أن ولاية الفرات تستفيد من كونها غير معزولة جغرافياً، مقارنةً بالولايات الثلاث الأخريات التي نوقشت هنا. وبما أن النصف الآخر من ولاية الفرات هو في سوريا، فإن تنظيم «الدولة الإسلامية» يتمتع بحرية التنقل عبر الحدود، مما يعقد الخطط العسكرية المحتملة. بالإضافة إلى ذلك، فإن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والذي يعمل على استعادة الرقة، في سوريا، لن يتمكن على الأرجح من التقدم بما فيه الكفاية نحو الجنوب لربط الجهود على جانبي الحدود قبل سقوط تلعفر في العراق. ولهذا السبب سيكون من المنطقي التركيز على ولاية الفرات في الدرجة الثالثة من بين المواقع الثلاثة المتبقية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» داخل العراق. وفي غضون ذلك، سيعتمد نجاح هذه المعركة على إحراز تقدم أكبر في الحملة ضد تنظيم «داعش» في سوريا، مع القبول بأن المقاربة الأكثر فعاليةً ستتطلب الاستحواذ على كامل ولاية الفرات، على جانبيها العراقي والسوري. فإذا ركّز التحالف على جانب واحد فقط، قد تعبر عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» الحدود، وتعيد تشكيل المفاعيل المرجوة من أعمال التحالف وإبطالها.

الاستنتاجات

نظراً إلى هذه الصورة عن المناطق التي ما زالت تصمد فيها سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، يجب على القوات العراقية وقوات التحالف أن تثني فعلاً على انتصارها في الموصل – ولكن يجب عليها أيضاً ألا تحيد بنظرها عن الخطوة التالية، ليس فقط فيما يخص المواقع التي ما زال تنظيم «الدولة الإسلامية» يحتفظ فيها بقوة متمردة، بل أيضاً المواقع التي يُظهر فيها سيطرة إقليمية ومرونة إدارية. ولن يؤدي تدمير بقايا مشروع الخلافة الخاص بـ تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى القضاء على الجماعة، التي ستستمر في تشكيل تهديد من ناحية التمرد والإرهاب، لكنه سيزيل أي حجج قد يميل الجهاديون إلى تقديمها لتبرير استمرارية دولتهم – حتى لو كانت تلك الدولة عبارة عن مجرد صورة مضمحلة لكيانها السابق.

هارون ي. زيلين هو زميل “ريتشارد بورو” في معهد واشنطن.