العراق بعد داعش يمضي الى المجهول
خضر دوملي
رسميا تم الاعلان على القضاء على تنظيم “داعش” في الموصل ، واعلان التحرير لتنطوي صفحة مهمة من صفحات تاريخ العراق المعاصر بعد مضي ثلاث سنوات على سيطرة التنظيم على الموصل ومناطق شاسعة من العراق.
في وقت تتوجه أنظار المراقبين الى مصير البلاد ، هل هو سائر الى التشتت والتفتت ، أم الى الاتحاد والفدرلة ، التي تتطابق والواقع ؟ أم سيكون أمام مواجهات مفتوحة بعدم وجود خطط واقعية ، لاعادة لململة الشتات وحلحلة المشاكل؟!
العراق بعد القضاء على تنظيم داعش عسكريا ، لن يكون كما العراق الذي قبله ، رغم أن الاحداث التي أوصلت البلاد الى ما هي عليه ، لم تصل مع وصول داعش الى مشارف بغداد، بل هي نتيجة السياسات التي انتهجتها الحكومة في بغداد ، واسفرت عن تشتت البلاد ، وتعمق الفساد في مؤسسات البلاد ، الى انقاسامات فعلية ، واستهداف للمكونات و محاربة للقوى المدنية .
التي نشطت كثيرا في السنوات الاولى لما بعد خلاص البلد من نظام (حزب البعث ) في ربيع 2003 ، الذي لم يكن بريئا من الكثير من الجرائم ، التي حصلت قبل واثناء سيطرة تنظيم داعش على مناطق عدة ، حيث ساهم العديد من رجالات البعث في تنظيم صفوف التنظيم (داعش ) ، وقيادة المناطق والاشراف على العمليات المختلفة .
وخاصة في تلك المناطق ، التي كانت ولاتزال مناطق لحواضن ” بعثية – سنية ” ، احتضنت التطرف وساندته ، ثم انتقلت الى مساندة التنظيمات المختلفة التي أشرفت على عمليات الاغتيال والتفجيرات حتى وصلت الى الدعم المنظم للجماعات المسلحة والارهابية، التي كانت تفرض الاتاوات على المؤسسات والشركات علانية في ( الموصل ، الفلوجة ، الرمادي ، صلاح الدين ) في السنوات 2009 – 2014 ، امام الصمت الحكومي ، نكاية بالحكومة في بغداد ، التي كانوا يوصفونها ب(الرافضية).
واقع حال العراق ، أنه استفردت مجاميع وأشخاص بالسلطة ، وباتت المصالح الخاصة ، أكثر أهمية من توفير الامن والاستقرار و الخدمات ، والاقصاء أكثر أهمية من التشاركية ، والاستحواذ على المؤسسات واعتبارها شركات خاصة ، وليس مؤسسات تخدم البلاد .
هي الصفة السائدة ، التي أوصلت العراق الى ان يكون مفتوحا ، امام تنظيم “داعش ” الذي لم يجد من يقف في وجهه ، وأصبح البلد مشتتا موزعا ، الى تقسيمات طائفية وعرقية ومناطقية ، واثنيات دينية !!!
من صدمة ظهور داعش الى بشاعة جرائمه
كان ظهور داعش في أولى ايام سيطرته على الفلوجة ، واجزاء من الرمادي ، ومناطق شاسعة من غربي العراق ، على امتداد الحدود السورية نهاية 2013 ، التي كانت حاضنة للقاعدة منذ عام 2005 ، بمثابة النتيجة الحتمية للصراعات السياسية في العراق ، والتي تطورت الى حين الوصول الى مقاطعة السلطة ومهاجمة رموز الحكومة ، واستهداف المكونات الدينية والعرقية في وسط وجنوب العراق ، بحيث خلال خمس الى سبع سنوات 2004 – 2011 .
أصبح جنوب العراق ، شبه خالي من (المسيحيين ) و( الصابئة) وسطه ، أصبحوا لقمة سائغة لعمليات الاستهداف والتهجير والترحيل المنظم ، الذي سجلت جرائم استهدافهم دائما والى الان ” ضد مجهول” ، الى ان اصبح الواقع ينتظر الاصلاح ، الذي تفاجئ الناس بظهور ما يسمى بـ ( ساحات الاعتصام والعز 2012-2013 ) ، كما كانت تسمى من قبل مؤسسات اعلامية مدفوعة الاجر ، و مخطط لمنهج عملها.
والتي لم تكن سوى مخطط منظم لاحتضان الارهابيين والقتلة ، ومساندين الى استقدام المقاتلين الاجانب من صفوف تنظيم داعش في سوريا ، وتحول هؤلاء (قادة) ساحات الاعتصام مباشرة ، الى قادة وأمراء في صفوف التنظيم ، الذين لم تبقى جريمة ألا وارتكبوها .
بدءا من سبي النساء الايزيديات ، وابادتهم في سنجار في الثالث من اغسطس \ آب 2014 ، وصولا الى انتهاج سياسات ومقررات عفى عليها الزمن ، مثل (عتق الرقبة) و(نظام العبيد) و(الخمس والاتاوة ) ، وأشكال عنيفة من القتل الجماعي ، كما في معسكر “سبايكر” او قرية ” كوجو الايزيدية” ، وأعدامات بطرق أقل ما توصف بأنها وحشية .
مرورا بتدمير الارث الحضاري ل(نينوى) من تدمير مزارات الايزيدية ، وكنائس المسيحيين ، و مزارات الشيعة التركمان ، والارث الحضاري الاقدم في الموصل وأطراف مزار النبي (خدرلياس ) ، والنبي (يونس) ، والنبي (جرجيس) ، الذين تعود الى عصور ما قبل الميلاد ، وجوامع وصوامع ومزارات “بعشيقة” و”سهل نينوى” ، و”الشبك” و”الكاكائية” ، وآثار نينوى الأقدم.
ماذا بعد “قادمون يا نينوى”… ؟
بعدما أعلن رئيس الوزراء حيدر العبادي ، بدء معركة ” قادمون يا نينوى ” في اكتوبر \ كانون أول 2016 كانت لا تزال أحاديث شكل الخارطة الجديدة للعراق ، لما بعد داعش لم تظهر بوادره ، والتي لم تظهر الى الان ايضا، بعدما اعلن رسميا اليوم الاحد 9 يوليو \ تموز 2017 ، انتهاء معركة تحرير الموصل .. في وقت لا يزال الكثير من المراقبين ، يتساءلون عن طبيعة نظام الحكم ، وشكل الادارة والخارطة السياسية للبلاد عموما ، وموصل خصوصا ..
لاتزال هناك الكثير من الملفات العالقة ، التي تنتظر الحكومة العراقية ، تعد وفقا لمقررات النزاعات العميقة ، حجر عثرة كبيرة ، فمنطقة (حويجة ) التي تتوسط البلاد ، لا تزال مركزا مهما للتنظيم ، فيما ( تلعفر) والمناطق المجاورة ، فقد اعلنت مصادر من تنظيم داعش ، انه اعتبرها مركزا بديلا لمؤسسات (الخلافة) في العراق .
حيث تتسارع الاحدث غربا في قضاء سنجار ، التي تحولت الى مركز صراع اقليمي محلي ، بين قوات البيشمركة الكردية ، ووحدات من قوات تابعة لحزب العمال الكردستاني ، التي تمركزت هناك منذ صيف 2014 .
وتقدم قوات الحشد الشعبي الى جنوب سنجار – منطقة البعاج 130 كم غرب الموصل قرب الحدود السورية ، التي سيطرت عليها باتفاق مع رؤوساء عشائر هناك ، لا تزال يشوبها الكثير من الغموض ، باعتبارها كانت واحدة من أكثر المناطق ، التي تعد حواضن لداعش ، وتحركات على أطراف كركوك التي أعلنت رفع علم كردستان .
والتحدي الابرز ، الذي لا يؤشر ان بقاء البلاد موحدا ، لم ينته باعلان رئيس اقليم كردستان مسعود بارزاني باجراء استفتاء حق تقرير المصير في الخامس والعشرين من أيلول \ سبتمبر القادم ، وسط رفض العديد من الاطراف السياسية العراقية ، وصمت حكومي لا يؤشر الى أي منحى ستتجه هل مع اجراء الاستفتاء ؟ أم الوقوف ضده؟ أو السكوت لمعرفة نتائجه ، ومن ثم اتخاذ موقفه ؟
الذي لن يكون بعيدا من تأثيرات دول الجوار ، الذين يختلفون في كل شيء ، ولكنهم يبدو انهم متحدون على موقفهم المعارض ، لاجراء الاستفتاء في اقليم كردستان
أي رؤية للحكومة العراقية في اعادة الاستقرار بعد سقوط ” داعش” … ؟
هذه الاحداث والتطورات المتسارعة في المشهد العراقي ، لا تبين أي صورة بأن العراق يتجه الى الوحدة ، وتشير التساؤلات الكثيرة ، بأن الانفلات الامني في العديد من المناطق سيستمر، وهذا المؤشر نابع من أنه الى لا توجد أي خطط حكومية ، لعودة اكثر من ( ثلاثة) ملايين نازح الى مناطق سكناهم ، سواء التي دمرت ، أو التي يمكن العودة اليها .
لا توجد خطط للتعويضات ، وتحقيق العدالة والمصالحة ، حتى اللجنة التي تشكلت لاقرار المصالحة في العراق ، تجتمع وتقرر وتعلن ، ولا أحد يعرف ماذا لديها من صلاحيات ، وماهي رؤيتها لاعادة لملمة الجراح ، وحلحلة المشاكل التي اسفرت عن سيطرة تنظيم داعش على العديد من المناطق ، بدءا بالتحقيق في جرائم (السبي) وصولا الى انضمام قادة ومسؤولين كبار للتنظيم ، حيث لا توجد اي مقررات أو غطاء قانوني لمحاكمتهم ، والمضي في مشاريع تقديم الجناة للمحاكم.
المراقبون يعلنون كل يوم وفي العديد من المؤتمرات والمناسبات والفعاليات المدنية ، بأن عدم وجود رؤية حكومة لاعادة الاستقرار وتوفير الامن للمناطق ، التي تحررت ، تعد عائقا كبيرا امام الحكومة في تشجيع النازحين للعودة الى مناطقها ، كما انها دليل على عدم وجود رؤية لشكل الخارطة الجديدة للبلاد ، التي يتصور الكثيرون ، بأنها ستعود الى سلطة ينخر في مفاصلها الفساد ، واطراف تتحكم بمقدرات البلاد .
في وقت ، بات العمل على تجاوز الاثار ، التي نتجت من سيطرة تنظيم داعش على بعض المناطق واضحة انها بحاجة الى ميزانية ضخمة ، وجهود وخطط حكومية محكمة وسيطرة أمنية فاعلة ، والا فان الدمار سيستمر سنوات ، وسنوات.
الاقليات من واقع مر الى مستقبل مجهول !!
قد يتصور البعض ، ان الجرائم التي ارتكبها تنظيم داعش بحق الاقليات في نينوى ، هي الصفحة الابرز لمكونات البلاد الاصيلة، ولكن بسبب عدم تسليط الاضواء على واقعهم في وسط وجنوب البلاد ، فان الجرائم التي أدت ، أو حاول تنظيم داعش ابادتهم في محافظة نينوى ، ليس الا جزءا من مسلسل مكمل للواقع المر ، الذي كانوا يعيشونه ويمرون به ، وسط صمت حكومي .
فمئات الالاف من المسيحيين اختفوا من وسط وجنوب العراق ، وتراجع نفوذهم من ما يزيد على (المليون والنصف ) الى ( ثلاث مائة الف ) ، في افضل تقدير ، وفقا لاعلانات الكنائس والمؤسسات المسيحية .
والصابئة المندائية ، شعوب العراق الاصيلة في جنوبه ، تراجع نفوذهم من ( مائة وعشرين الف) الى ( تسعة آلاف ) على اكثر تقدير ، وفقا لاحصاءات مؤسساتهم .
ولم يكن حال (الايزيدية) بافضل منهم ، الذين اختفوا من خارطة مركز مدينة الموصل وجنوب العراق واستهدفتهم التنظيمات الارهابية بواحدة من أكبر جرائم التفجيرات ، التي حصلت في شهر آب \ اغسطس 2007 في سنجار، مع اختفاء الشبك الشيعة من مركز مدينة الموصل ، وكذا الحال مع الكاكائية في كركوك او استهداف منظم للبهائية .
هذه الجرائم ، اختتمت أو انتهت بالجرائم الكبيرة ، التي ارتكبها تنظيم داعش ضد الايزيدية في نينوى في الثالث من آب\ اغسطس 2014 ، حيث قتل أكثر من ثلاثة الاف ، وخطف ما يزيد عن ال(ستة آلاف) ، واختفاء مصير آلاف آخرين ، وفقا لاحدث تقرير للامم المتحدة.
وهو ما اعتبرته اللجنة المعنية بالتحقيق في جرائم داعش في سوريا والعراق ، بأنه جريمة ابادة ، فثلاثين مقبرة جماعية ، وآلاف المخطوفين في قبضة التنظيم ، وتدمير حوالي 60 مزارا ، ومرقدا دينيا لهم ، لا تزال أكثر الهموم تراودهم.
مما دعى الى تشتتهم في التواصل مع مختلف التنظيمات العسكرية ، بدءا من البيشمركة كردستان ، وصولا الى كتائب في صفوف تنظيمات الحشد الشعبي .
المسيحيون ، اختفوا بهدوء من مركز مدينة الموصل ، التي تعد ومنذ الف وسبعمائة عام ، مركزا كبيرا للمسيحية ، ودمر التنظيم ما يزيد على 40 كنيسة ومزارا دينيا ، الى جانب تدميره للبنية التحتية لمناطقهم في سهل نينوى ، لم تتوفر لهم اية علامات بأن الحكومة تعمل على أعادتهم لمناطقهم ، رغم ان غالبيتها الان وبشكل غير مباشر ، تحت سيطرة تنظيمات عسكرية (مسيحية) .
الشبك ، هم الآخرون واحدة من الطوائف الاثني دينية – قومية ، استهدفهم التنظيم بضرواة ، واعتبرهم روافض ، فلم يكن لهم مكانة في ظل الخلافة الداعشية .
فيما الجرائم ، التي طالت الكاكائية ، والتي اسفرت عن نزوح عشرات الاف من مناطقهم ، يجدون صعوبة في العودة اليها ، رغم تحريرها في شرقي الموصل.
وفقا لكل هذه المؤشرات ، فان مستقبل مكونات العراق ، باختلاف الانتماءات الدينية ، القومية ، العرقية ، والاثنية ، مرهون بشكل السلطة وطبيعتها ، بتوفير الامن لهم وتحقيق العدالة ، ببناء الاستقرار وانصافهم وتعويضهم ، تعويضا عادلا ، يمنحهم الكرامة والشعور ، بأنهم متساوون في الحقوق مع الآخرين.
ماذا بعد على القضاء تنظيم (داعش) عسكريا ؟
يبدو من خلال المسارات ، التي تسير عليها الاحداث في العراق ، بأن الرؤية لعراق ما بعد داعش ، غير واضحة لابنائها .
ولا يوجد لدى السياسيين أي رؤية ، يمكن ان تساعد على انقاذ البلاد من شفى حروب وصراعات ، قد تستمر طويلا، ورغم ان الاخبار الخاصة بالانتصارات ، التي يحققها الحشد الشعبي ، تدعو للتفاؤل بالسرعة على بقايا التنظيم في المناطق القليلة الباقية ، الا ان اختلاف الرؤية والتصورات بين السنة والشيعة بخصوص ، شكل نظام الحكم ، ومطالب تغيير الدستور .
أو بين الشيعة والكرد ، فيما يتعلق بمستقل اقليم كردستان ، أو بين الاطراف الثلاثة ، وخاصة المطالب السنية ، التي تدعو الى تشكيل اقليم سني ، أو اقاليم اخرى ، قد تؤدي بشكل او بأخر الى صراعات جديدة على الحدود الجغرافية لانتشار التجمعات الاثني دينية والقومية .
في وقت أن الرؤية الدولية ، تتجه لصالح عراق موحد، لكن لا أحد يصدق ، بأنه وفقا للواقع الحالي ، فان امكانية انشاء عراق موحد قابلة التحقق ، وفرص تشتت البلاد وتفتته ، هي أكثر وضوحا .
فمؤسسات الدولة منهارة وميزانية خاوية وجماعات مسلحة من مختلف الصنوف ، هي التي تتحكم بمقدرات البلاد الان ، كما ان الامر المهم ، الذي بات يشغل بال المختصين والمتابعين ، هو المعركة الثقافية لمواجهة الافكار ، التي تركها تنظيم داعش في عقول الناس ، وكيف سيتمكن البلد في مواجهة خطاب الكراهية والتطرف والعنف ، الذي اصبح جزءا من الثقافة اليومية للكثيرين .
وصولا الى عدم وجود لوضع حد للتدخل في شؤون البلاد من قبل القوى الخارجية ، فلم يعد هذا الامر مفاجئا ، بل بات جزءا من ضمن خط المستقبل ، وهو ما يؤشر بوضوح ، أن عراق ما بعد داعش ، قد لايكون العراق ، الذي قبله ، أو قد يكون شكلا جديدا غريبا ، على المنطقة برمته !!.