ثنائية السلطة وأوتوقراطية الإصلاح
دريد الحداد
على الدوام كانت السلطة في شرقنا العربي ثنائية ، بمعنى أن يكون للحاكم أو الرئيس نائب يشاركه في الرأي وتنفيذ مهام تلك السلطة السياسية، وعلى الدوام أيضاً كانت هذه المشاركة في السلطة بين الحاكم ونائبه تخلق صراعاً خفياً يلوح في الأفق في ما بعد ليفجر اضطراباً أو انقلاباً ، هكذا كان الحال بين نجيب وناصر ثم ناصر وعامر في مصر ، وقاسم وعبد السلام ثم البكر وصدام في العراق ، والقذافي وجلّود في ليبيا.
قبل هؤلاء بقرون طويلة كانت ثمة ثنائية ذاع صيتها كثيراً وهي ثنائية قيصر وبروتس ، تلك الثنائية التي مثلت أقسى خيانة تذرعت بوطنية زائفة حينما قال بروتس لقيصر “أحبك لكني أحب روما أكثر” وذلك رداً على مقولة يوليوس قيصر له “حتى أنت يا بروتس؟ “.
كانت تلك الثنائيات على مدى التاريخ تضم رديفين متشابهين ومتطابقين وأحياناً متلاصقين كتوأم سيامي بحاجة لتدخل جراحي دقيق يؤدي غالباً إلى موت أو تنحي احدهما ، وتوالت الولادات السيامية هذه لتنجب توائم مختلفة ومتخالفة بل ومتخاصمة قبل النزول من رحم السلطة وقطع حبل المشيمة ، الرحم الذي أنجب كل تلك التناقضات والمتناقضين فكانت ثنائية السلطة هي بالفعل ثنائية النقيضين.
توهم بعض الحكام أن سلسلة التناقض هذه يمكن أن تنتهي تماماً حينما يضعون حداً لتلك الثنائية بأن لا يجعلوا لهم أي نائب “كما فعل مبارك مثلا” أو أن يكون لاحدهم له نائب مهلهل “كما فعل صدام مثلا” فكان النائب الشريك مجهولاً ودورهُ في صنع السياسة غامضاً وغير معروف.
من هنا تماماً تولدت السلطة المطلقة والمفسدة المطلقة بغلق ملف ثنائية السلطة الذي ظن الجميع أنها أزلية منذ عهد يوليوس قيصر ، وحينها أسدل الستار عن تلك الثنائية بكوارث عسكرية “غزو أجنبي” أو اقتصادية “انهيار موارد البلاد” فانبثقت ثورات الربيع العربي التي تمخضت عن أجنّة غير مكتملة النمو.
من هذا الموقف نشأت فكرة الإصلاحات من رحم أحادية السلطة بدلاً من ثنائيتها وتشكّل عبرها حكم جديد “اوتوقراطي” وهو شكل من أشكال الحكم تكون فيه السلطة السياسية حصراً بيد شخص واحد. وهذا الإصلاح الناشئ سعى لتحسين النظام القائم دون الإطاحة به بالمجمل وتضمن إصلاح السياسات الاقتصادية والخدمات المدنية والإدارة المالية العامة بينما أبعدته “البيروقراطية” عن المسار المطلوب وقلبت نتائجه.
جرى ذلك كله دون اكتراث الشعب حتى فشلت الإصلاحات في الوصول إلى مبتغاها فبدأ الشعب يتساءل عن جدوى إصلاحات من دون نجاح واضح ونتائج حقيقية.
إن المتغيرات والتحولات التي يعيشها العالم حتمت على الدولة إعادة النظر في سياساتها وإصلاحاتها حتى يمكن معايشة الواقع لأن الشعوب بدأت تنظر إلى حقوقها لدى حكوماتها ، ما هي الخدمات التي يجب أن يحصلوا عليها؟ وما هي الطريقة المثلى التي يجب على الدولة أن تتبعها لتقديمها لهم؟ وفي ظل الركود المالي العالمي وعدم القيام بإصلاحات حقيقية بالتزامن المستمر مع مطالبات فئات الشعب بالحصول على خدمات مناسبة تليق بهم سيؤدي كل ذلك حتماً إلى اهتزاز ثقة الشعب بأداء المؤسسات الحكومية مما يخلق المزيد من المشاكل التي ستواجهها الدولة.لذلك تمت المناداة بالإصلاح الحقيقي وليس الأوتوقراطي من أجل مواكبة المستجدات التي تعانيها أغلب الدول النامية التي تسيرها أنظمة فساد إداري مستتر يتمثل في الاختلاس المادي وتعطيل مصالح الناس والبطء في تقديم الخدمات وهكذا فإن عملية الإصلاح تحتاج إلى هدف وإلى جهد يشارك فيه الجميع بقيادة الدولة وأن تكون هذه العملية شاملة للقطاعين العام والخاص.
وكاستنتاج بديهي نرى بأن ثنائية السلطة ليست إلاّ صورة منعكسة لصراع محموم داخل الدولة الواحدة وقد يتمخض عن هذا الصراع نوع من الإصلاح الجزئي لكنه سيكون مهلهلا وغير فاعل، أما اختزال هذه الثنائية إلى أحادية أوتوقراطية فسيؤدي لا محالة إلى انعدام الإصلاح بالمطلق في ظل هكذا دولة وبالنتيجة سيكون غير ذي جدوى وهذا ما كان يحصل دائماً في بلادنا طوال الفترة الماضية لأنه كان يصب أساساً في الفردانية المطلقة لشخص الرئيس وحده ولم يكن صراعا إصلاحياّ حقيقياّ ناتجاً عن صراع داخل منظومة الحكم الرسمي.
وعلى الرغم من وجود قدر من المنطق في هذا التفسير لدور الثنائية في السلطة بالتأثير على نهج إصلاح الدول إلا أننا لا نرى ضرورة لهذه الثنائية كبديل عن المشاركة الحقيقية التي تنطلق من مبدأ “الجماعية” في اتخاذ القرارات الإصلاحية على كل المستويات.
بالمحصلة ينبغي علينا التأكيد أن منتجي الصراع الثنائي لا يتصارعون على المساندة الشعبية من خلال عمليات تنافس سليم وشفاف في التمثيل السياسي بل يتم إنتاج هذه الثنائيات من مواقع القيادة السياسية، ويقترن بها احتكار كامل ليس فقط للإعلام والمجالات العامة فحسب وإنما أيضاً لمؤسسات الدولة التنفيذية والتشريعية من أمن وقضاء وتعليم من أجل تسويق إصلاح وهمي لا تكون مهمته استرداد الفهم الجمعي الحقيقي للإصلاح فضلا عن كونه لا يمت للشعب ولا لأهدافه وتطلعاته بأية صلة.