أزمة النظام الإقليمي في الخليج
أحمد داود اغلو
في وقتٍ كان الشرق الأوسط فيه بأمسّ الحاجة إلى خطةٍ إيجابيةٍ لتجاوز الانقسام، سيطرت على الساحة تطوراتٌ مشؤومةٌ جديدةٌ، وبدا أنَّ قوى التفسُّخ قد أُطلقت. وتعدُّ أزمة الخليج الحالية أحدث مظاهر تلك النزعة. وقبل التفكير في طريقٍ للخروج من هذه الأزمة، من الضروري توصيفها بدقةٍ، وتفنيد أسبابها الجذرية، وآثارها الإقليمية.
هناك الكثير من التصورات للأزمة القطرية، وقد استُخدمت عدةُ طرقٍ لوصف طبيعة القضية المطروحة. فـ”الأزمة القطرية”، و”الأزمة الخليجية”، و”التباري من أجل تعيين نظامٍ إقليمي جديد”، و”الفصل الأخير من مواجهات الربيع العربي الحاسمة”- كلها توصيفات جرى توظيفها في مناسباتٍ عديدة لوصف الأزمة. وكل هذه توصيفات مرهونة بالمنطق التشغيلي الخاص بالمراقبين. في الواقع، فإنَّ سياسة تسمية أزمةٍ ليست مسعىً تافهاً. فهي تُسلِّط الضوء على الموقف السياسي للمراقب المُفكِّر أو المُطَّلِع على الأزمة، وعليه فإنَّها تُطلعنا أيضاً على كيف تجري قراءة الوضع، وما الصيغ المقترحة لحله.
وليست الأزمة الحالية أزمةً ثنائيةً بين قطر وجيرانها في الخليج العربي، كما أنَّها ليست أزمةً معزولةً جغرافيّاً، محصورةً على الخليج العربي. وإنَّما هي أزمةٌ إقليميةٌ؛ وهي نتيجةٌ مباشرةٌ لغياب نظامٍ إقليمي مستدام في الشرق الأوسط.
إنَّ عدم وجود نظامٍ إقليميٍ مستدام وشرعي قد عزَّز الخصومات المحدقة والتنافسية المضنية، مُوجِداً دائرةً من المعادلات الصفرية في المنطقة. ويُعرِّف موقف الخسارة المتبادلة هذا البناء الأساسي لأغلب العلاقات الداخلية وعلاقات الدول بالمجتمعات في المنطقة بالوقت الحاضر، ليصبح السمة المميزة لقضايا المنطقة في السنوات الأخيرة. ومنذ أن صارت العداوات والشكوك وانعدام الأمان والتنافسية القاتلة تحدد طبيعة التعاملات الإقليمية- لم تعد الحدود نقاط اتصال، وإنَّما حواجز بين الشعوب والمجتمعات والأفكار والدول، وتحولت الحدود إلى ما يشبه الجدران العازلة.
بشَّرت شكوكٌ كهذه واستقراءاتٌ خاطئةٌ وأفكارٌ مبالِغةٌ حول تهديداتٍ محدقةٍ بـ”عقلية حصارٍ” على مستوى النخبة السياسية في أنحاء المنطقة، وهذا بدوره يضع قاعدةً لتخطيطٍ استباقيٍ، وسياساتٍ عدائيةٍ ومتنمرة. والسبب الجذري وراء “عقلية الحصار” تلك وطبيعة جنون العظمة التي تُميِّز هذا السلوك السياسي، يكمن في الفجوة المتسعة بين الشعوب والنُخب الحاكمة. إنَّ أزمة شرعيةٍ كهذه على مستوى النُخَب السياسية، والتباين الصارخ بين تطلعات الشعوب وتصورات الحكام يمثلان العمود الفقري لكل أزمات المنطقة. وهو ما يمنع بدوره أي مساعٍ مثمرةٍ بين المجتمعات والحكومات على المستوى الإقليمي.
وبطبيعة الحال، فإنَّ لتلك الظروف تأثيرها الضار على التعاون أو الاندماج الإقليمي. وسبب ذلك جلي، فالمؤسسات تتبع النوايا والقيم المشتركة. والفاعلون السياسيون الذين لا يملكون الشرعية الشعبية لا يمكنهم العمل بنوايا حسنةٍ، وهذا من شأنه أن يمهد الطريق للمؤسسات الموثوقة التي بإمكانها إنتاج منتجات عامة لكلٍّ من المجتمعات المفردة وللمنطقة بأكملها. وعليه، فإنَّ حل مشكلة شرعية الفاعلين السياسيين الإقليميين أمرٌ ضروري بالنسبة لآليات النوايا والمؤسسات من أجل العمل والتنمية.
ومن النماذج الناجحة بهذا المنظور، مشروع التكامل الأوروبي. فعند تحليل نوايا الآباء المؤسسين للمشروع الأوروبي، فإنَّ أبرز ما يتضح هو أنَّهم كانوا جميعاً ملتزمين بفكرة التكامل الأوروبي وإعادة هيكلة طبيعة العلاقات بينهم بشكلٍ يحمي المصالح المشتركة، وعليه فقد كان منطق الفوز للجميع عاملاً مُتضمَّناً في العملية؛ بل إنَّ تلك النخبة السياسية كانت ترى بوضوحٍ ترابط السياقات المحلية والإقليمية.
وبطريقةٍ مماثلةٍ، فقد تشاركوا، متسلحين بشرعيةٍ شعبيةٍ، قيماً متماثلةً فيما يتعلق بالأنظمة الداخلية، والمجتمع، والمنطقة؛ ما شكّل عاملاً أسهم بشكلٍ هائلٍ في تأسيس مجتمعٍ ذي أمنٍ مشتركٍ على امتداد مشروع التكامل الأوروبي. وعلى مدار القرنين العشرين والحادي والعشرين، يمكن القول إنَّ عام 2012 كان هو أقرب نقطة يصل إليها الشرق الأوسط فيما يتعلَّق بتأسيس نظامٍ شبه إقليمي، حيث بدا أنَّ طاقاتٍ ومطالب مجتمعية قد بدأت في تشكيل عملياتٍ سياسيةٍ، والتي بدورها كانت ستوفر الأساس الفكري والأمن السياسي اللازمين للنخب السياسية من أجل الشروع في تأسيس نظامٍ إقليميٍ جديدٍ إذا نجحت تلك العمليات. إلا أن تلك العملية قد أُجهِضت.
واليوم، يفتقر الشرق الأوسط بشدةٍ إلى الصفات السابقة التي تمتَّع بها الآباء المؤسسون للمشروع الأوروبي. وبطريقةٍ مماثلةٍ، فإنَّ موقف القيادة الأميركية حيال تلك الأزمة لم يكن هو الآخر ذا رؤيةٍ قط. فالطبيعة المزدوجة للسياسة الأميركية -التي يمثل الرئيس ترامب أو البيت الأبيض أحد وجهيها، بينما تمثل مؤسسات الدولة وجهها الآخر- لم تزد الأزمة إلا تفاقماً.
وتسهم تلك السياسات المتباينة التي تنتهجها المكونات المختلفة بالإدارة الأميركية في زعزعة الاستقرار الأمني بالخليج. وهي سياسةٌ لا تدعم الثقة ولا الالتزام بين حلفاء أميركا. وتحتاج الولايات المتحدة لتبني سياسة مشتركة مسؤولة تهدف إلى تخفيف تصعيد الأزمة.
وبالعودة إلى الشرق الأوسط وإعادة صياغة الموقف بشكلٍ مختلف، فإنَّ المنطقة بحاجةٍ إلى موقفٍ ذي رؤية، مدعومٍ بشرعيةٍ شعبيةٍ تستطيع أن تضع مشروعاً يتجاوز المناخ الحالي، وترى أبعد من سياق المصالح الفردية المحدد.
وعلى النخب السياسية أن تتعلم كيف تتصور نظام مصالح إقليمية مشتركة، تعتمد فيه مصالح كل دولةٍ على السياق الإقليمي الأكبر. ومن ثم إقامة دولةٍ ذات نفعٍ إقليميٍ يمكن رؤيتها، ليس فقط كدولة ذات مساعٍ إيثارية؛ بل وكساعيةٍ أيضاً وراء مصالحها الخاصة. وفي سيناريو كهذا، ما كان لحصار قطر أن يكون أمراً مُتصوَّراً؛ لأنَّ منطق الاعتماد المتبادل كان سيتصدَّى لخطوةٍ كتلك، وذلك مرتبطٌ بشكلٍ وثيقٍ بوجود نظامٍ إقليميٍ فعالٍ.
لكنّ غياب النظام الإقليمي ليس هو فقط ما يفاقِم الخلافات أو المظالم الإقليمية. فحقيقة أنَّ المنطقة تفتقر إلى المؤسسات أو الهياكل التي يمكنها أن تحكم تلك المظالم أو العمل على تحويل تلك النزاعات إلى عملياتٍ سياسية ودبلوماسية- هي مسألة يجب أن تُمثِّل هي الأخرى مبعث قلقٍ رئيسي.
لكنَّ هذا الغياب، في حد ذاته، ليس شيئاً مفاجئاً. وكما ناقشنا قبلاً، فإنَّ المؤسسات وليدة النوايا، والنوايا تُشكّلها تصوُّرات الأطراف المشاركة، وهو ما يعني بالتبعية نفسياتهم السياسية، التي تتكوّن بدورها نتيجة مستوى الشرعية الاجتماعية-السياسية التي يحظى بها كل منها. وفي المنطقة، فإنَّ النخبة السياسية تدفعها المخاوف الكامنة وجنون العظمة النشط -أو النفسيّات السياسية المضطربة- وهُم بذلك غير لائقين لتدشين عملية إقامة نظامٍ إقليمي شرعي؛ لأنَّ النوايا المعتلّة تُمهّد الطريق لمؤسساتٍ تكون مختلّة الفعلِ والمفاهيمِ منذ البداية، والصفة البادية على أكثر المؤسسات الإقليمية الحالية أو الكيانات المشتركة بين الحكومات هي أنّها تكون دائماً عديمة النفع عند الحاجة إليها.
والدليل على ذلك، أنَّ مجلس التعاون الخليجي لم يكُن له مكان في المحادثات حول كيفية حل أهم أزمة مرَّت بها منطقة الخليج في تاريخ المنظمة. فلن تستطيع أية منظمة أن تكون أكثر فاعلية مما أراد بها المساهمون فيها. وهذا يتطلَّب وجود نخبة سياسية متطلّعة وشرعية لم تتورّط مسبقاً في مكائد الأمس التافهة.
وعليه، فإنَّ هناك علاقة جدلية بين القيم، والنوايا، والمؤسسات.
وبالعودة مجدداً إلى مشكلتنا الأساسية، فإنَّ النظام الإقليمي ما قبل الربيع العربي قد أصبح ميتاً الآن. لكنَّ الربيع العربي بدوره لم يخلق نظاماً بديلاً له. وقد انتقل البحث عن نظامٍ إقليمي جديد إلى فترة ما بعد الربيع العربي. ولكي ينجح هذا المسعى، علينا النظر لأربعة مبادئ وضعتُها أنا عام 2008، وأكّدتُ عليها لاحقاً بصفتي وزيراً للخارجية التركية عند حضوري مؤتمر وزراء الخارجية العرب الـ132 بدعوةٍ منهم في التاسع من سبتمبر/أيلول عام 2009. وكانت النقاط الأربع كالتالي:
1) مبدأ “الأمن للجميع”، الذي يجب أن يكون قابلاً للتطبيق على كل الدول والمجتمعات، وكذلك الأفراد في المنطقة.
2) “الحوار السياسي عالي المستوى” عليه أن يكون الآلية الرئيسة لتسوية أية خلافات إقليمية.
3) خلق “اعتماد اقتصادي متبادل” بين الدول الإقليمية، واستخدامه كوسيلةٍ لإرساء أساسات نظامٍ إقليمي سلمي.
4) تبنّي “التعددية الثقافية والتعايش” كقيمةٍ مشتركة في سبيل حماية والاعتزاز بالتنوع الإثني، والطائفي، والديني، وبِنْية مدننا، ومجتمعاتنا، وبلادنا.
وبجانب تلك الأسس الفِكرية، وباتخاذ منحى أكثر نفعية، تتطلّب محاولة تشكيل نظامٍ إقليمي أيضاً وجود نقاطٍ للبداية أو جُزُرٍ من الاستقرار يمكن توسعة حدودها تدريجياً حتى تشمل المنطقة بأكملها.
وبالنظر إلى خريطة الشرق الأوسط، تمثّل تركيا ومنطقة الخليج الآن مناطق الاستقرار تلك. على الأقل، كان هذا هو الحال حتى وقتٍ قريب. ويجب الحفاظ على ما تبقى من استقرارٍ بهما. ومن هذا المنظور، يجب مناقشة وجود القاعدة العسكرية التركية في قطر كجزءٍ من الجدال القائم بضرورة الحفاظ على مناطق الاستقرار في المنطقة. وليست القاعدة التركية هناك فقط لحفظ الأمن والاستقرار بقطر وحدها؛ بل إنها هناك لحفظ أمن النظام الإقليمي الفرعي الخليجي ككل. وبوضع هذا في الاعتبار، فإنَّها ملتزمة بأمن المملكة العربية السعودية بقدر ما يهمّها أمن قطر؛ إذ ترفض تركيا اللعب ضمن سياسة المعسكرات المختلفة في الخليج.
وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ القصد من وجود القاعدة التركية في قطر هو أن تخدم كعامل معزِّزٍ للأمن والاستقرار بالخليج. ولم تُصَمّم من أجل لعب دورٍ لزيادة الانقسامات في المنطقة أو لتمهيد الطريق أمام اختراق المنطقة من قِبل قواتٍ خارجية. وعلّمتنا التجربة أنَّ اختراق المنطقة من جانب قوى مهيمنة أو خارجية لم يجلب السلام ولا الرخاء لشعوب المنطقة. وبالفعل، كان العكس صحيحاً في أغلب الحالات.
وبهذا الصدد، علينا ألّا نسمح لهذه الأزمة بأن تصبح وضعاً طبيعياً جديداً في المنطقة. يجب ألا تتشكّل أزمة أخرى مُعلَّقة دون حل في جوارنا، وتولِّد أصنافاً مختلفة من العوامل الخارجية السلبية والتحديات الأمنية في وجه المنطقة الأكبر. وإذا لم تجر تسوية هذه الأزمة سريعاً، فإنَّ هُناك مخاطرة بظهور وضعٍ طبيعي جديد قد يضع خطوط حربٍ باردة جديدة بالمنطقة. وفي سيناريو كهذا، شيءٌ واحد يكون أكيداً: لن يخرج أحدٌ فائزاً من هذا العداء الضار.
علاوة على ذلك، فإنَّ استمرار هذه الأزمة يُشتِّت الأطراف الضالعة فيها عن الاهتمام بالقضايا والأجندات الحقيقية في المنطقة. والصمت الكبير للحكام العرب-المسلمين على سوء معاملة إسرائيل للفلسطينيين ومنع دخولهم المسجد الأقصى هو نموذج على ذلك. فالوصول لأماكن العبادة هو حق أساسي من حقوق الإنسان لا يمكن مصادرته. وعليه، فإنَّ سياسة إسرائيل بوضع أجهزة كشفٍ إلكترونية على أبواب الأقصى أو غيرها من وسائل المراقبة لاحقاً تحت ذريعة “الأمن”- هي انتهاكٌ لمواثيق حقوق الإنسان كافة. وعلى الدول الإقليمية وكذلك المجتمع الدولي اتّخاذ إجراءاتٍ فورية ومطالبة إسرائيل بالرجوع عن سياستها. وإلا فستؤدي هذه السياسة لتصعيد التوتّر وتفاقُم الاضطراب الإقليمي القائم.
إنَّ المنطقة في حاجة شديدة إلى زيادة حجم جزر أو مناطق الاستقرار، فضلاً عن الانتقاص منها. ويجب ألا يُعتّم الانهيار، أو الاضطراب الإقليمي، أو فشل الحكومات، أو التدهور المجتمعي الحادث اليوم على رؤيتنا للغد، كذلك يجب ألا تمتد أفعالنا ومحادثاتنا لفترة تتجاوز المدى الزمني لفوضى اليوم.
لا جدوى من محاولة إعادة إحياء النظام القديم بهيئته السابقة. فلن يكون مستقبل المنطقة نسخةً مطابقة من ماضيها. وبالمثل، فإنَّه لن يتحقّق نظام الغد الإقليمي ببث الحياة في جثّة نظام الأمس. فذلك النظام ينتمي الآن إلى عهدٍ مضى، أخذ أنصاره المجتمعيُّون في الاختفاء على مدار السنوات الأخيرة. وحتى يكون أي نظامٍ سياسي مستداماً، يتطلّب ذلك تبنّي نفسية سياسية تستند إلى التوافق على المستوى المجتمعي. ويجب ألا يخدع وجود الأنظمة المستبدة، حتى في أكثر أشكالها وحشية، والتنمُّر الإقليمي أحداً بالتفكير في أنَّ نظاماً إقليمياً جديداً يظهر بتلك الطريقة. وفي أحسن الأحوال، فإنّ تلك ليست إلا محاولة من بقايا الماضي لإعاقة قوى المستقبل.
في المنطقة الآن أطرافٌ جديدة ونفسيةٌ سياسية جديدة. وعليه، فإنَّ تصميماً قائماً من أعلى لأسفل (أي يهتم بالقمة أولاً) ولا يمتد ليشمل مطالب ورغبات الشعوب- سيكون محتوماً بالفشل في مهمة خلقِ نظامٍ إقليمي متماسك. وفي هذا الصدد، يجب أن نأخذ أزمة “الخليج” الأخيرة باعتبارها فرصةً لإعادة التفكير في نظامٍ إقليمي شامل، وشرعي، ومستدام من شأنه أن يتغلَّب على التنمّر الإقليمي ويُحبِط محاولات إعادة تنصيب الوضع الاستبدادي السابق.