المفتش العام والفشل العضال

جمال جصاني
المفتشون العامون كما الكثير من العناوين والوظائف والملاكات والمكاتب التي طفحت بعد الفتح الديمقراطي المبين، لم تتمكن من النهوض بالمسؤوليات التي عهدت إليها وحسب بل تحولت الى عبء إضافي على مؤسسات وإدارات الدولة المترهلة أصلاً. وهذا ما اعترفت به لجنة النزاهة النيابية مؤخراً، عندما دعت الى حل هذه المؤسسة (المفتش العام) بعد مشوار طويل من التخبط والفشل في مواجهة اخطبوط الفساد وإقطاعياته المتنوعة والمتعاظمة. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا؛ هل أن عجز هذه المؤسسة يشكل شذوذاً عن الواقع العام لبقية الإدارات والمؤسسات الحكومية أم هو امتداد طبيعي لمنظومة كاملة لها جذورها وقيمها ومعاييرها وبنيتها الراسخة؟
إن مؤسسة مثل (المفتش العام) لم تظهر اعتباطاً لدى غير القليل من الدول الحديثة، وهي كما غيرها من المؤسسات والهيئات، ولدت استجابة لحاجات موضوعية، رافقت نمط الإنتاج الواسع والمتطور، بوصفها كياناً حيوياً من منظومة الرقابة الفعالة في تلك البلدان، والأمثلة عديدة ومعروفة في هذا المجال. لذلك فإن سبل المواجهة مع علل وتجليات الخلل البنيوي لاخطبوط العجز والفساد المهيمنة على مفاصل حياتنا المادية والقيمية، لا يمكن أن تتم بمثل هذه القرارات الني لا تكف عن إيجاد المزيد من القرابين، تهرباً من المواجهة الفعلية مع علل وترسانات كل ذلك الفساد، الذي تحول الى ما يشبه الفولكلور الشعبي المتسلل لتفصيلات حياتنا الفردية والاجتماعية. إن مثل هذه التوجهات ضيقة الأفق، لن تترك تأثيراً إيجابياً في مكافحة وباء الترهل والفساد، لا سيما أن مصير ملاكات تلك المكاتب، سيتم نقلها الى دوائر وزارات ومؤسسات الدولة الاخرى، كما جرى مع وزارات وهيئات تم حلها واستيعابها في أماكن حكومية لا تقل ترهلاً وعجزا عنها.
إن أس الفساد وكما عرفته كل تجارب الدول والمجتمعات في عالم القرية الكونية، يكمن في الثروة (طرق إنتاجها وتراكمها وإعادة توزيعها) في هذا الميدان الحيوي، بوسعنا التعرف على ملامحنا الحقيقية، وبالتالي فك طلاسم هذه المتاهات والأهوال المرافقة لنا زمن النظام المباد ومع ورثة أسلابه بعد “التغيير”. وهذا ما لن تتجرأ الطبقة السياسية الحالية وحيتانها ومشاريعها من الالتفات إليه، لما يشكل من خطر على مصالحها الفعلية وغاياتها النهائية. كما أن تجربة عراق ما بعد “التغيير” قد كشفت عن الهموم والاهتمامات الفعلية لهذه القوى والكتل والجماعات، والتي بسطت هيمنتها على مقاليد أمور العملية السياسية وما يتشعب عنها من سلطات ومراكز نفوذ ومؤسسات وإدارات تزداد تورماً، استجابة للضغوط الشعبية من أجل التعيين والحصول على الوظيفة الحكومية، طبقاً لثوابتنا الغابرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر قاعدة (أولاد الست وأولاد الجارية) حيث تفرد المناصب السيادية والدسمة للجيل الجديد من أولاد وبنات الست وما يتبقى من الفتات يرمى لشعب الجارية. لقد أخفقت غالبية المؤسسات والهيئات الجديدة في النهوض بالواجبات والمسؤوليات التي وجدت من أجلها، والعيب لا يمكن حصره بها ككيان فقط، بل في الشروط والمناخات التي تحيط بها، وتكبح كل فرصة ممكنة للنجاح في إنجاز ما عهد لها من مهمات. لذلك سيلتحق مقترح لجنة النزاهة النيابية بحل مكاتب المفتشين العموميين ببقية الحلول والقرارات الترقيعية التي سعت عبثاً للهروب من الأسباب والقوى والمصالح الحقيقية التي تقف خلف اخطبوط الفساد والعجز والفشل الذي لا يكف عن جرنا الى قعر الهاوية.