الصراع العربي-الإسرائيلي وتهمة معاداة السامية
د. عبد الخالق حسين
كاتب ومحلل سياسي عراقي مغترب
من نافلة القول أن الصراع العربي- الإسرائيلي هو السبب الرئيسي (من بين الأسباب الأخرى)، لتخلف دول منطقة الشرق الأوسط، وعدم استقرارها، وتبديد ثرواتها، وطاقاتها البشرية في الحروب، والتنظيمات الإرهابية وغيرها. وقد وصفه كاتب إسرائيلي معتدل (أنه صراع بين الحق والحق)، أي من حق الشعب الفلسطيني أن تكون له دولة قابلة للحياة، وكذلك من حق إسرائيل أن تعيش بسلام مع جيرانها في المنطقة. ولذلك فهذا الصراع هو معقد جداً، وملتبس على الكثير من الناس بحيث أدى إلى انقسام العالم واستقطابه إلى هذه الجهة أو تلك. وقد كتبتُ عدة مقالات في هذا الخصوص انتقدت فيها الحكومات العربية والقيادات الفلسطينية، على رفضها الحلول الواقعية الممكنة، وتبنيها شعارات وأهداف خيالية غير قابلة للتطبيق مثل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وإزالة إسرائيل من الخريطة…الخ، الشعار الذي جلب الكوارث والنكبات، ليس على الشعب الفلسطيني فحسب، بل وعلى جميع الشعوب العربية ودول المنطقة.(1)
فقد استغلت إسرائيل المظالم التي وقعت على اليهود خلال الألفي عام، و خاصة في أوربا، واتخذتها ذريعة لمظالمها ضد الشعب الفلسطيني، فما أن يوجه أي شخص أبسط انتقاد للحكومة الاسرائيلية، إلا ورفع اللوبي الإسرائيلي بوجهه سلاح معاداة السامية (Antisemitism)، ولم يسلم من هذه التهمة حتى اليساريون البريطانيون المعروفون بمواقفهم الإنسانية، ونضالهم من أجل العدالة الاجتماعية وضد العنصرية، مثل السيد كِن لفنكستون، عمدة لندن الأسبق، بل وحتى النائب العمالي اليهودي الراحل جيرالد كوفمان، المعروف بانتقاداته اللاذعة ضد الحكومة الإسرائيلية في تعاملها العنصري الفض مع الشعب الفلسطيني، فاتهمه اللوبي الإسرائيلي بمعاداة السامية. (راجع مقال صحيفة الغارديان اللندنية، الرابط في الهامش)(2)
مناسبة هذه المقدمة أنه بعد نشر مقالي الأخير حول زيارة الفتاة العراقية الأيزيدية، نادية مراد إلى إسرائيل(3)، وما أثارت من ضجة ضدها، تلقيتُ عدة تعليقات، بعضها على موقع الحوار المتمدن، وأغلبها بأسماء مستعارة، وهجومية لا تخلو من توجيه تهمة العنصرية ومعاداة السامية، مع استخدام عبارات نابية لا تليق بأدب الحوار، مما اضطررتُ منع نشر البعض منها.
في الحقيقة كان المقال دفاعاً عن الفتاة نادية مراد، المظلومة، وعن طائفتها المنكوبة التي تعرضت لحرب الإبادة (جينوسايد)، من قبل تنظيم داعش الإرهابي المتوحش، مع تقديم نصائح وإرشادات لها، إذ رأيتُ أن هذه الزيارة لم تكن في محلها، حيث استغلتها إسرائيل لتلميع وجهها، وتوظيف مظلومية الطائفة الأيزيدية لإبراز نفسها بأنها هي الأخرى ضحية الإرهاب في المنطقة، والمتضرر من هذه الزيارة هو: نادية مراد نفسها، وطائفتها الأيزيدية، والمستفيد منها هو إسرائيل وداعش.
وكنت على غير عادتي، قد فتحت باب التعليقات للقراء الكرام في صحيفة (الحوار المتمدن) الإلكترونية، للاستفادة من آرائهم عن هذه الزيارة المثيرة للجدل. ولكن شارك عدد قليل من القراء، ومعظم تعليقاتهم هجومية، ومن مضامينها بدت لي أن عدداً منهم من إسرائيل، وتحت أسماء عراقية أو أسماء غريبة مثل (سيلوس العراقي)، وآخر باسم (Nasha)، وربما ثلاثة منهم لشخص واحد، استخدمت عبارات بذيئة، ليس دفاعاً عن نادية وطائفتها المنكوبة، بل دفاعاً محموماً عن إسرائيل، وبالطبع توجيه تهمة العنصرية ومعاداة السامية.
فقد شارك المعلق باسم (Nasha) بعدة تعليقات جاء في أحدها قائلاً: (من الطبيعي ان المظلوم يلتجئ الى المظلومين مثله لان الظالم واحد وهو العنصرية.). وهذا دليل يؤكد أن زيارة نادية مراد، وإلقائها كلمة في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي)، قد قدمت دعاية مجانية لإسرائيل، و عرضت طائفتها الأيزيدية للمزيد من الأذى والانتقام كما جاء في تعليق من قارئ أيزيدي، سأذكره أدناه بعد قليل.
كما وعلق القارئ عبدالحسين سلمان قائلاً: (أنت تعيش في بريطانيا، مركز الماسونية العالمية، وتحمل الجنسية البريطانية،… والجميع يعلم ان بريطانيا كان لها دور قذر في العراق. فهل نستطيع ان نوجه لحضرتكم التهم التي قذفتها بوجه هذه الشابة بسبب هذا؟؟ الامر غير معقول. هذا الخطاب القومي البعثي الذي يقول أن (إسرائيل تعتبر عدوة للعراق)، يجب يُلغى من خطابنا السياسي. أنا لا ادعو للحوار مع إسرائيل، ولكن دعوا المضطهد يبحث عن ساحل نجاة حتى لو كان الشيطان. مع احترامي و تقديري) أنتهى
جوابي على الأخ عبدالحسين سلمان هو كالآتي:
أولاً، لا يمكن معاملة بريطانيا كإسرائيل، وإلا لكان على جميع الدول العربية والإسلامية التي قاطعت إسرائيل، أن تقاطع بريطانيا أيضاً، وهذا مستحيل. فتشبيه وجودي في بريطانيا بزيارة نادية مراد لإسرائيل أمر غريب إن لم يكن مضحكاً، ففي بريطانا أكثر من ربع مليون عراقي، فكم عراقي يوجد في إسرائيل ما عدى اليهود العراقيين الذين رحلوا قسراً أو طوعاً. ثانياً، أنا لم أوجه تهمة قذرة بوجه (هذه الشابة)، بل تعاطفتُ معها واعتبرتها ضحية تستحق الحماية والدعم. ثالثاً، أنا أيضاً أتمنى أن ينتهي العداء مع إسرائيل، ولكن رسمياً العداء موجود منذ عام 1948 وإلى الآن، فالحكومات العراقية المتعاقبة وحتى ما بعد 2003 لم تتجرأ بحذف هذا القرار، لأن ظروف العراق الراهنة لن تسمح بذلك. لذا، شئنا أم أبينا، فإسرائيل مازالت رسمياً تعتبر عدوة. والكرة الآن في ملعب إسرائيل، فهي وحدها تستطيع تبديل هذه العلاقة من عدائية إلى طبيعية ودية، وذلك بأن تقبل بحل الدولتين. وعندئذ ليس من حق العراقيين أن يكونوا فلسطينيين أكثر من الشعب الفلسطيني.
كذلك وصلتني تعليقات من أصدقاء كورد، أحدهم كاتب مرموق، مع مقالات، أكدوا فيها أن لبارزاني يد في هذه الزيارة، لتوريط هذه الفتاة وطائفتها وإيقاعها في الفخ الإسرائيلي، وبالتالي تأجيج المتطرفين على الأيزيدية. وهذا ليس بغريب في السياسة الاخطبوطية التي يتبعها حزب بارزاني.
كما وتلقيتُ رسائل من أصدقاء أكاديميين معروفين بمواقفهم الوطنية، والإنسانية، ودفاعهم عن حقوق الشعب الفلسطيني، انتقدوا موقفي الناقد للزيارة، واعتبروا إسرائيل دولة ديمقراطية يسود فيها حكم القانون، ومن حقها أن تستقبل هذه الفتاة الأيزيدية، ومن هذه الرسائل، أشير إلى واحدة منها، أجتزئ منها الفقرة الأولى:
(شكراً على هذا المقال المتعاطف مع النكبة والجينوسايد الذي تعرض له اليزيديون والذي أؤيدك فيه تماماً. لكن ما أختلف فيه معك هو تشبيه إسرائيل بداعش. فمع أن من المسلَّم به هو أن إسرائيل تمارس التفرقة العنصرية المفضوحة ضد الفلسطينيين، وتنتهك حقوقهم، الا أنها مع كل ذلك هي بلد تحكمها القوانين، وفيها نظام ديمقراطي تمثيلي، يشارك فيه الفلسطينيون حاملي الجنسية الإسرائيلية. وأعتقد أن مثل هذه المقارنة قد تصب دون قصد في تجميل صورة داعش، والتغاضي عن بربريتها ووحشيتها التي ليس لها مثيل في التاريخ الحديث.) انتهى
ورسائل أخرى تتقارب في المضمون مع الاقتباس أعلاه، لا أجد ضرورة نشرها لتلافي الإطالة. وجوابي على تعليقات الأصدقاء كالتالي:
شكراً على ملاحظاتكم القيمة، أتفق مع معظمها، أنا لم أشبِّه إسرائيل بداعش، بل قارنتها بداعش، فالاختلاف بينهما بالدرجة وطريقة التنفيذ. إسرائيل لا تحرق الفلسطينيين في أقفاص حديدية وهم أحياء كما تفعل داعش مع ضحاياها بطريقة وحشية لا مثيل لها، بل تحرقهم بطريقة “حضارية”، وقانونية معترف بها دولياً، أي في حالة حرب بذريعة الدفاع عن النفس! وذلك عن طريق القصف الجوي وهم أحياء ودون أي تمييز بين العسكريين والمدنيين. ففي كل مرة تطلق حماس وعن جهل ونتيجة اليأس والاستماتة ، نوعاً من الصواريخ البدائية (جينكو)، صناعة محلية من السكراب، أو كما يسمى بالإنكليزية (Homemade missiles)، التي غالباً تنحرف عن أهدافها، ولا تقتل حتى نعجة في المرعى، تقوم إسرائيل بقصف غزة بآخر طراز من الصواريخ المتطورة ذات القدرة التدميرية الهائلة. ففي كل حرب بين حماس وإسرائيل، إذا قتلت حماس ثلاثة إسرائيليين، تقوم إسرائيل بقتل ألفين أو أكثر من الفلسطينيين في غزة، و تدمير البنى التحتية… وغيرها كثير، إضافة إلى الحصار المفروض على غزة.
نعم إسرائيل دولة ديمقراطية تحكم شعبها بقوانين، ولكنها ظالمة بحق الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبشهادة القس ديزموند توتو من جمهورية جنوب أفريقيا، والذي زار فلسطين قبل سنوات فقال: “أن العنف الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يولد إلا المزيد من الكراهية والعنف المتبادل…” وفي عام 2002 قال: “إن سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين لا تضاهيها إلا سياسة التمييز العنصري التي كانت تنتهجها حكومة بريتوريا ضد السود في جنوب أفريقيا”.
لقد رفضت إسرائيل جميع الحلول التي قدمتها الأمم المتحدة، وهذا الظلم يخدم الإرهابيين الإسلاميين إذ يتخذونه ذريعة في خدع الشبان المسلمين الفارغين فكرياً، والمحرومين من الثقافة والتفكير النقدي العلمي، فيشحنونهم بالحقد الأعمى على الغرب المتعاطف مع إسرائيل، ويبثون بينهم نظرية المؤامرة وغيرها.
والتعليق الوحيد الذي جاء مؤيداً للمقال هو من القارئ الأيزيدي، السيد خالد علوكة، وموقفه الواقعي والمؤيد ناتج عن كونه أيزيدي يعرف الوضع جيداً، فأهل مكة أعرف بشعابها، جاء فيه: (شكرا على المقال الحريص على البراءة والضعفاء وتقديم الحلول لهذه الكبوة. فعلا انا شخصيا اتصلت بمقربين جدا لها، وقلت لها لا تذهبي لأنه فخ ولكن كبوة فارس، وقد اضرت بمستقبلها وزادت اعداء الايزيدية، علما لا يزال آلاف من الأيزيدية بيد داعش أسرى وسبايا، ونحتاج الى مساعدة اي انسان لغرض عودتهم ومعرفة مصيرهم، وليس جلب النقد لأهلها. ومن الله العلاج والاعتذار ودمت لوفاء الانسانية).
خلاصة القول
هناك سوء فهم من بعض القراء، وربما لأني لم أكن واضحاً بما فيه الكفاية، وعليه أود توضيح موقفي من إسرائيل. أنا لست عنصرياً، ولا معادياً للسامية أو اليهود. بل أسعى بكل إمكانياتي المتواضعة لإقناع الرأي العام العربي، و أهل الحل والعقد، أن من حق الدولة الإسرائيلية أن تعيش بسلام، وتتمتع بعلاقات طبيعية مع دول المنطقة، مقابل قبول إسرائيل بحل الدولتين، أي قيام الدولة الفلسطينية بحدود 4 حزيران 1967، والقدس الشرقية عاصمتها، الحل الذي تبنته الأمم المتحدة، والمحافل الدولية الأخرى مثل اتفاقية أوسلو، ووافقت عليها القيادة الفلسطينية برئاسة السيد محمود عباس.
ولكن المشكلة أن الحكومة الإسرائيلية برئاسة بنجامين نتنياهو وقفت معارضة لهذا الحل بمختلف الحجج الواهية، ومع هذا الرفض والتعنت تعقد الصراع، و نتجت عنه مآس، وآلام، وكوارث، وحروب في دول المنطقة، وما التنظيمات الإرهابية الإسلامية إلا من نتاج هذا الصراع العربي- الإسرائيلي، الذي يجب أن ينتهي عاجلاً، لتوجيه كل الطاقات للتنمية والإعمار بدلاً من الحروب والدمار.