البحث عن المواطنة في ليبرالية السوق

محمد شريف أبو ميسم
الجميع يتفق على المواطنة بوصفها الهوية الجامعة في تحقيق الوحدة والسلم المجتمعي في بلد متعدد الاثنيات، القومية والطائفية ، وبالتالي فان المواطنة هي الملاذ الأمن من الأجندات الخارجية ،التي تحاول احداث الفرقة واثارة النعرات لخلق المزيد من الفوضى في مجتمع يسهل فيه تسويق الحلول الجاهزة لفرض الهيمنة ومصادرة المقدرات وسلب السيادة.
والمواطنة لا تقف عند الحقوق التي تكفلها الدولة لمن ينتمي لها أو يحمل جنسيتها بجانب الالتزامات التي تفرضها عليه، وانما تمتد لاشباع الحاجات الأساسية كشرط في تحقيقها، بحيث لا تكون هموم الذات مدعاة للتفضيل على الصالح العام، فيكون التفاف الأفراد حول المصالح والغايات المشتركة، بما يجعل التعاون والتكامل في العمل الجماعي قضية غير قابلة للمزايدة.
وبناء عليه فان واجبات المواطن في الدفاع عن الوطن والالتزام بالقوانين ودفع الضرائب للدولة تكون نتيجة طبيعية وأمرا مقبولا في ظل نظام ديموقراطي يوفر الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويكفل الحريات دون تمييز.
طيب كيف يمكن تحقيق ذلك في ظل نظام اقتصاد السوق الرأسمالي أو ما يسمى بليبرالية السوق؟ اذ ان هذا النظام الاقتصادي والسياسي ، يعتمد ثالوث (الملكية والحرية والمسؤولية) بانتقائية فهو يمنح حق الملكية الخاصة لأفراد دون غيرهم بالوراثة ويمنح رأس المال الحرية المطلقة في ادارة شؤون الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية دون محددات، حينها يكون رأس المال وراء التشكيلة السياسية وبالتالي وراء التشريعات القانونية التي تنظم الحياة، فيما تكون المسؤولية غير ملزمة في هذا النظام، اذ تدخل في اطار مواطنة الشركات التي تقدم الخدمات الاجتماعية والدعم الانساني طوعا وليس الزاما.
وهنا يكون التقاطع في طروحات من يدعوا للمواطنة كأساس لبناء الديموقراطية التعددية التي تلزم الحكومات بتوفير متطلبات الحقوق والحريات وفي مقدمتها اشباع الحاجات والحد الأدنى من الرفاه الاجتماعي والاقتصادي، وهو في ذات الوقت يتبنى نظام اقتصاد السوق الرأسمالي أو ما يسمى بليبرالية السوق.
فكيف يمكن توفير الحماية الاجتماعية والرعاية الصحية والسكن الكريم والبيئة النظيفة والحق في التعليم والتنمية التي تضمن كامل الخدمات، في ظل ليبرالية تخصخص وظائف الدولة وتمنح الحرية المطلقة لرأس المال في ادارة كل مفاصل الحياة؟
اذ ان ليبرالية السوق التي يتبناها اليمين المتطرف في دول الاتحاد الأوروبي لم تجد لها بيئة مناسبة في تلك الدول بوصفها منهجا سياسيا واقتصاديا يؤسس لاعادة انتاج العبودية بشهادة القوى المعارضة لها في عموم دول الاتحاد.
ان الشروع بخصخصة بعض المفاصل الحياتية في بلدنا، والتي لا تمت بصلة للشركات العامة المرشحة للخصخصة بوصفها شركات خاسرة بسبب الفساد، يبعث برسائل مؤكدة عن نية تطبيق آليات الليبرالية الجديدة في بلدنا وجعلها منطلقا لهذه الليبرالية التي تمنح السيادة للمال وتعيد انتاج العبودية بعد أن جوبهت بالرفض في عقر دارها على اثر هزيمة اليمين المتطرف في انتخابات عموم دول الاتحاد الأوروبي بوصفها نظاما ينسف مفهوم دولة الرفاه القائمة على نظام اقتصاد السوق الاجتماعي الذي يلزم رأس المال بمجموعة كبيرة من الواجبات لصالح الدولة وفق نظام ضريبي تصاعدي يساهم في ديمومة وظائف الدولة واشباع حاجات الناس ومنح حقوق المواطنة لكل مواطن ليكون ملتزما بواجباته اتجاه وطنه وشعبه.
ويبدو بلدنا مرشحا وبقوة لتطبيق هذه التجربة على وفق معطيات كثيرة تقف في مقدمتها شروط الجهات الدائنة، التي تلزم العراق الجديد بخصخصة وظائف الدولة وترك الحياة لحركة السوق وحركة رأس المال بعد أربعة عشر عاما من الفوضى والفساد والتراجع في عموم القطاعات الاقتصادية والخدمية ازاء تخصيصات مالية هائلة ذهبت الى غير أهدافها.
وقد لا تبدو فكرة خصخصة الطريق الواصل بين الرمادي والحدود الأردنية نقطة شروع في تنفيذ هذه التجربة ولكن قرار بيع خدمة الحماية الأمنية للمولات والجهات التجارية من قبل الجهات القطاعية الرسمية يعد وبامتياز دالة واضحة على هذا التأسيس.