التركيز على أهداف واضحة لاحتواء إيران في العراق وسوريا

جيمس جيفري | وائل الزيات
وسط تحرير الموصل من قبضة “داعش” والغزو الوشيك لعاصمة “الخلافة”، الرقة، تقف الولايات المتحدة عند نقطة مفصلية في الشرق الأوسط. لكنها لم تضع بعد إستراتيجية متماسكة، كما ذكر إميل سيمبسون في مقالة اتسمت بالذكاء في مجلة “فورين بوليسي” بعنوان “هكذا بدأت الحروب الكبرى” ومحررو “واشنطن بوست”.
وتتمثل المشكلة الكبرى التي تواجهها الإدارة الأمريكية في أن إيران مستعدة للسيطرة على العراق وسوريا، وبالتالي إنشاء ممر يمتد من طهران إلى جنوب لبنان في أعقاب هزيمة “داعش”. فطهران، بفضل ترسانتها الصاروخية والدعم الروسي المحدود على الأقل، تسعى إلى زعزعة أمن المنطقة، مهددةً عبر هذا الممر كلًا من الأردن وإسرائيل وتركيا، وفي نهاية المطاف دول الخليج. وقد التزمت إدارة ترامب باحتواء هذا التهديد خلال قمة الرياض في أيار/مايو، لكنها لم تفلح في إيجاد الطريقة المناسبة حتى الآن.
ويكمن أحد الأسباب خلف ذلك في أن الولايات المتحدة لا تزال تصب تركيزها على دحر تنظيم “داعش”. غير أن رابطًا يجمع بين هذا الأخير وإيران: فدعم طهران لسياسات رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي والرئيس السوري بشار الأسد العربية العنيفة المعادية للسنّة بين 2011 و2014 سمح بصعود “داعش” في المقام الأول. وفي حال باء النظام الأمني الإقليمي الذي تقوده الولايات المتحدة، والذي فشل آنذاك في كبح إيران، بالفشل مرة جديدة، سينخرط ملايين العرب السنّة في العراق وسوريا على الأرجح في صفوف بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة مجددًا.
وقد ساهمت الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة مؤخرًا لمقاومة الأسد وحلفائه الإيرانيين عسكريًا، إلى جانب وقف إطلاق النار الروسي-الأمريكي المحدود في جنوب غرب سوريا في إرساء الاستقرار نوعًا ما في ساحة المعركة السورية المعقدة، لكن هذه الخطوات لا ترتقي إلى مستوى إستراتيجية، لا سيما أن المسؤولين الأمريكيين يواصلون التأكيد أن بلادهم تتدخل في سوريا بهدف محاربة “داعش” فحسب.
وحتى إن أرادت الولايات المتحدة تجنب اعتماد إستراتيجية مماثلة، يبدو أن الوقت بدأ ينفذ. فهل ستترك الولايات المتحدة المناطق التي تعمل فيها القوات الأمريكية إلى جانب حلفائها السوريين لبشار الأسد ما إن يتمّ تدمير “دولة” “داعش”؟ وهل ستسحب قواتها عندها من العراق نظرًا إلى التدهور الأمني الذي شهدته البلاد بعد انسحاب القوات الأمريكية عام 2011؟ وهل سيقبل حلفاء الولايات المتحدة – تركيا والأردن وإسرائيل – بوجود عناصر من “حزب الله” على حدودها؟ بالتالي، ما من خيار أمام واشنطن إلا وضع إستراتيجية خاصة بإيران، والإجابة بسرعة عن هذه الأسئلة.
غير أن وضع إستراتيجية مماثلة ليس بالمهمة السهلة، إذ إن العواقب مخيفة: سعي الإدارة خلف أهداف قد تكون متضاربة – محاربة “داعش” واحتواء إيران؛ سابقة إدارة أوباما في وضع احتواء إيران خارج نطاق البحث؛ ودور روسيا المبهم كحليف شبه إيراني.
لكن ناهيك عن هذه المشاكل المحددة، تعاني الولايات المتحدة مشاكل مزمنة لجهة وضع إستراتيجية، حيث أنها غالبًا ما تتداخل مع بعض الأهداف الأساسية – مثلًا، برز في “إعلان الرؤية الإستراتيجية المشتركة السعودية-الأمريكية” في أيار/مايو عبارة “احتواء نفوذ إيران المؤذي” – من دون متابعة. أما المشكلة الأخرى، فهي رد فعل مفاجئ حيال المشاكل الأمنية يقوم على مبدأ “ضرورة إصلاح الشرق الأوسط بكامله”، ظهر مع إدارة بوش في العراق وخطاب أوباما في القاهرة عام 2009. وحتمًا، تنبع مشاكل المنطقة الأمنية من عوامل سياسية واقتصادية وثقافية كامنة، لكن الولايات المتحدة فهمت منذ 2001 أنه لا يمكنها بسهولة إيجاد حل لاضطرابات هيكلية مماثلة، إنما عليها معالجة مظاهرها.
ولتحقيق هذه الغاية، على الولايات المتحدة العودة إلى “عقيدة باول” التي ظهرت في ثمانينيات القرن الماضي، وهي مجموعة مبادئ وضعها وزير الدفاع آنذاك كاسبر واينبرجر والجنرال كولن باول. وفي حين ترتبط العقيدة بالتزامات واسعة النطاق للقوات، يتناسب منطقها مع أي مشكلة سياسية-عسكرية، بما فيه عندما يكون عديد القوات محدودًا ويتولى الاقتتال البري شركاء محليون (كما حصل في البوسنة وكوسوفو).
ويمكن تطبيق أول مبدأ في العقيدة الذي ينص على ضمان “المصالح الحيوية التي هي على المحك” في سوريا. فتوسّع إيران قد يؤدي إلى اندلاع صراع مع حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، الدول السنّية في المنطقة وتركيا وإسرائيل. ومن شأن صراع مماثل، كما حصل في سبعينيات القرن الماضي، أن يوجه صفعة إلى صادرات المنطقة من النفط التي لا تزال ضرورية للاقتصاد العالمي. كما أن توسّع إيران يطرح تهديدًا لبقاء إسرائيل ويقوّض سيادة الدولة في أماكن أخرى من خلال وكلاء محليين لديهم ولاء حيال طهران يفوق ولاءهم لحكوماتهم (نموذج “حزب الله” في لبنان). علاوةً على ذلك، يدفع انعدام الاستقرار عمومًا في الشرق الأوسط بالجهات الفاعلة السيئة إلى امتلاك أسلحة نووية. أخيرًا، تسببت الاضطرابات المستمرة بتشريد الملايين، ما زعزع أمن الدول المجاورة والاتحاد الأوروبي.
نظرًا إلى أن الوضع يتماشى بالتالي مع معايير المصالح الحيوية المحددة في العقيدة، كيف يمكن تطويرها؟ تنص العقيدة على وجوب أن تضع الولايات المتحدة “أهدافًا سياسية وعسكرية واضحة” من أجل تحقيق “النصر”. غير أنه ليس من الضرورة أن يكون هذا النصر “شاملًا”؛ فقد حدّده باول بعبارات محدودة خلال حرب الخليج – ألا وهو تحرير الكويت وليس الإطاحة بصدام حسين.
وبما يشبه الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة في ثمانينيات القرن الماضي للتصدي للسوفيات في أفغانستان وإيران في الخليج، يمكن أن يتمثل مثل هذا الهدف الأمريكي المحدود في سوريا والعراق ما بعد “داعش” في التضييق على التوسّع الإيراني واحتوائه مع حماية المعتدلين وجماعاتهم، بدلًا من تدمير إيران أو الإطاحة بالأسد.
وفي العراق، من شأن الولايات المتحدة أن تدعم حكومة العبادي وتقود إعادة الإعمار الدولية وتحافظ على علاقة مميزة مع كردستان من دون تشجيعها على الاستقلال وكذلك دمج العراق في النظام المالي والطاقوي العالمي. كما يمكن للولايات المتحدة أن تبقي فرقة عسكرية صغيرة في البلاد لاقتلاع بقايا “داعش” وتطوير قدرات الجيش العراقي والإشارة أيضًا إلى الالتزام الأمريكي. ولن يتمثل الهدف الإستراتيجي في استحداث “برلين غربية” جديدة بل “فنلندا”. ولن يكون العراق تابعًا بالكامل لأي من المعسكرين الأمريكي أو الإيراني، لكن مستقلًا بما يكفي لردع إيران عن بسط نفوذها انطلاقًا من العراق كما تفعل في لبنان. ومن شأن مسار مماثل أن يثير مخاوف العراقيين من كافة الطوائف والإثنيات حيال التجاوزات الإيرانية في العراق. وفي حال لم يتمّ تطبيق هذا السيناريو، سيكون البديل روابط أمنية وطيدة تجمع الولايات المتحدة بإقليم كردستان المستقل شمال العراق، الموالي تقليديًا للغرب.
أما في سوريا، فالصورة أكثر تعقيدًا ومليئة بالتحديات، لكن يمكن للولايات المتحدة أن تطبق هناك أيضًا مبادئ العقيدة الرئيسية من خلال حماية المكاسب المنجزة بشق النفس ضد “داعش” والاستفادة منها لحض أطراف معنية رئيسية (الأسد والمعارضة العربية وأكراد سوريا والإيرانيين والروس) على قبول الحد من التصعيد المستمر إلى حين التوصل إلى ترتيب سياسي أكثر استدامة. وهذا يعني مواصلة العمل مع اللاعبين المحليين من العرب والأكراد على السواء لطرد “داعش” من الرقة وغيرها من المناطق وتوفير الدعم الإنساني وفي مجال إعادة الإعمار إلى المجتمعات المحررة كي تتمكن من البدء بإعادة بناء حياتها المدمرة وربما حض المشردين على العودة. لكن لا بدّ من تحقيق هذا الأمر من خلال الردع الموثوق في وجه النظام والهجمات الروسية والإيرانية، أي ما يشبه ما فعلته إدارة ترامب ردًا على استخدام الأسد للأسلحة الكيميائية ومضايقة القوات التي تحارب “داعش” جنوب سوريا.
ولا بدّ من أن يكون الهدف وراء أي ردّ عسكري أمريكي على هذه الانتهاكات واضحًا: حماية المناطق المحررة حديثًا وأفراد المجتمع الدولي الذين يقدمون المساعدة فيها، وليس إطلاق أي عمليات هجومية مستقبلية ضد النظام أو المصالح الروسية في سوريا. لا شك في أن حماية المناطق جنوب سوريا والرقة وفي الشمال لن تساعد المدنيين فحسب، بل ستقوّض أيضًا جهود إيران الرامية على توسيع رقعة نفوذها من طهران إلى بيروت لتشكّل نقطة ضغط دعمًا لمزيد من المفاوضات السياسية الجدية.
وتماشيًا مع تشديد العقيدة على تسخير “كافة الموارد الضرورية للفوز”، لا بدّ من أن تستخدم هذه الإستراتيجية النفوذ الدبلوماسي المنقطع النظير والتفوق العسكري الحاسم، وبالتالي “الهيمنة في مجال التصعيد” لكل من القوات الأمريكية في المنطقة والشركاء على الأرض والتحالف الدولي ضد “داعش” وتركيا والدول العربية السنّية وكذلك إسرائيل.
كما تتماشى الإستراتيجية مع مبدأ العقيدة التالي “التعهّد فقط بالتزامات يمكنها اكتساب دعم الشعب الأمريكي والكونغرس”، نظرًا إلى التكاليف المحدودة بالنسبة على الولايات المتحدة والتهديدات الخطيرة للغاية التي قد تواجهها الإستراتيجية.
أخيرًا، تتوافق هذه الإستراتيجية مع مبدأ العقيدة الأخير: اللجوء إلى القوات الأمريكية “كملاذ أخير فقط”. فقد سبق أن حاولت الولايات المتحدة اللجوء إلى “ملاذات” أخرى عبر إستراتيجية أوباما الرامية إلى الاستفادة من الاتفاق النووي الإيراني ودبلوماسية وزير الخارجية آنذاك جون كيري المكوكية بشأن سوريا من أجل كبح إيران عبر استيعاب المصالح الإيرانية والروسية من دون اللجوء إلى القوة. غير أن هذه الإستراتيجية باءت بالفشل.
ونتيجةً لذلك، تحتاج الإدارة بشكل ملح وطارئ إلى مقاربة شاملة إزاء إيران، تتركز في سوريا والعراق، بما في ذلك الوسائل العسكرية، من أجل استعادة الاستقرار في المنطقة وإلا ستبرز كوارث جديدة تغذي التطرف وربما برامج أسلحة دمار شامل جديدة.