فشل الأكاديميا العراقية

د. لاهاي عبد الحسين
تفخر الأكاديميات العريقة في العالم بأنّها مصدر إشعاع حقيقي من خلال ما تجود به عقليات النساء والرجال المشتغلين فيها من أعمال ومنجزات فكرية بلغوها بشق الأنفس وبعد سنوات طويلة من الجهد المنظم والدؤوب. يأتي هذا بصيغة نظريات وأفكار ومحاولات أقل ما يقال فيها أنّها تستحق أنْ تؤخذ بالإعتبار. وقد ترسخت تقاليد من هذا النوع حتى صارت الجامعة مقياساً ومصدراً للفكر الذي إختار في لحظات حاسمة في تاريخ الشعوب أنْ ينجب حركات اجتماعية مؤثرة كما في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة الأميركية في ستينيات القرن الماضي والتي أدت إلى إصلاحات قانونية واجتماعية وأكاديمية مهمة شقت طرقاً للخلاص لجماعات عانت من الإقصاء والتهميش وحتى العبودية مثل النساء والشباب والسود واللاتينيين والفقراء . بعدها بسنوات قليلة ولدت ثورة الطلبة في فرنسا التي حققت هي الأخرى الكثير من التغيرات في البنية السياسية والأكاديمية وحتى الكنسية الدينية على مستوى المجتمع الفرنسي والمجتمعات الأوروبية المجاورة. وإقتربت الأكاديمية العراقية ممثلة بمجموع الكليات والمعاهد ومؤسسات ومراكز البحث العلمي من هذا الهدف وبخاصة مطلع خمسينيات وستينيات القرن العشرين ليصبح الطالب الجامعي علامة فارقة وشخصية واعدة. وبرزت أسماء أساتذة وتدريسيين تركوا بصماتهم في بنية المؤسسة بما أنتجوا من أعمال وأثاروا من جدالات حرّكت المياه الراكدة في المجتمع. الا إنّ الوضع لم يستمر على ما هو عليه وبخاصة بعد عقود من الهيمنة السياسية أحادية النظرة والتطبيق. هيمنة قامت على حكم الحزب الواحد والزعيم الواحد والطريق الواحد نحو الحقيقة. لعل أولى هذه الظواهر أنْ صارت الجامعات وما يرتبط بها من مراكز بحثية قاعدة للفكر الإنهزامي المحافظ الذي يألف مدح النظام السياسي القائم ويبرر أخطائه وتجاوزاته من خلال العودة إلى قارورة القيم والتقاليد الاجتماعية السائدة والظروف الحاكمة حتى لكأنّ الناس لا يزيدون على أنْ يكونوا مجرد “أخشاب مسنّدة”، لا حول ولا قوة لهم في مواجهة ما يحدث. رافق ذلك خفض كبير وخطير في كمية ونوعية المادة العلمية التي يتحتم على الطلبة القيام بها فكان أنْ ظهرت الملازم والكراسات التي تقدم المادة العلمية بصورة قصاصات مجتزأة وموجزة وهي في الغالب قصاصات غير دقيقة وغير مركزة توضع كبديل للكتب والبحوث المنشورة في دوريات علمية معترف بها أكاديمياً. سرعان ما ظهر تأثير هذه النزعة في التعليم على الطلبة ممن صاروا لا يلفتون نظر أحد وبالتأكيد لا يبهرونه. وإستمر التدهور بنوعية التعليم بالتجلي من خلال تخريج أجيال أقرب إلى الدعاة والمبلغين منهم إلى المثقفين والمتسائلين عن كنه وطبيعة الأشياء. بل وإختار كثير منهم أنْ يغزوا مجالات غير التي درسوها وتأهلوا فيها كما في المهندس الذي يخوض بإرتياح شديد في مجال الدراسات الدينية وفلسفة العلوم والتاريخ دون أنْ يجد من يعترضه ويحاججه على كثير ما يفترض ويعمم.
وهناك مسألة التعبير عن المواقف الذكورية أو الأنثوية التقليدية التي تذكر بحرب داعس والغبراء حيث نجد إصراراً لدى الكثير من خريجي الجامعات العراقية على التقوقع فيها دون أنْ يبذلوا جهداً لمحاججتها. في الوقت الذي نهض العالم فيه من سباته لتقدم أكاديمياته نظريات وأفكار أسست لأقسام دراسات النساء التي تعد اليوم الأسرع تنامياً، تتراجع أجيال من الخريجين العراقيين عن فهم القواعد الأولية لميادين معرفية من هذا النوع. خذ على سبيل المثال أنّ إنتشار مفهوم الـ “الجندر” لم يكن ليقصد منه التحذلق والتفنن بإختراع المفردات الغريبة وإنّما تم تقديمه بهدف تصحيح الأفكار والمفاهيم للبحث في الذكورة عن الأنوثة والبحث في الأنوثة عن الذكورة وبخاصة بعد هذا التدفق الهائل والتراكم العظيم في كم العلوم والمعارف بشأن جوانب متعددة في حياة النساء والرجال. بعد التغيير الذي أصاب البنية الاجتماعية والاقتصادية في عديد المجتمعات الإنسانية جراء الحروب والمعارك والصِدامات المسلحة وغير المسلحة لم تعد المرأة ذلك الكائن الرقيق المرهف والشفاف بمثل ما لم يعد الرجل ذلك البطل الأسطوري والقائد المغوار بل صار كلاهما نوعاً آخر من البشر تساوت لديهما وفيهما المشاعر والهموم. من جانب آخر، يتذمر كثير من خريجي الجامعات العراقية بمختلف إختصاصاتهم وبخاصة الإنسانية منها حول الفجوة الكبيرة التي يعانون من وطأتها بعد التخرج. فالتعليم الجامعي لا يؤهلهم لحياة عمل ناجحة وسهلة مما يؤدي بهم إلى أنْ يجدوا أنفسهم مضطرين للدخول في عمليات إعادة تأهيل لتعلم أساليب عمل تقليدية دأب الموظفون القدامى على السير بمقتضاها دون أنْ يكونوا قادرين على الإتيان ببدائل مقنعة.
وهناك مسألة التعالي والعجرفة التي يبديها الكثير من المحسوبين على المؤسسة الأكاديمية العراقية بشأن المشاركة المسؤولة والحاذقة بالإعلام وصفحات الرأي في الوقت الذي تستخدم فيه المؤسسات الأكاديمية الفعالة في العالم مؤشر المشاركة في صفحات الرأي ومختلف وسائل الإعلام بإعتبارها جزءاً مهماً من دور الأكاديمي في تعزيز هدف “الجامعة في خدمة المجتمع”. يذكر د ساري حنفي أنّ هناك (35) أكاديمياً فقط من مجموع (3800) أكاديمي متفرغ للعمل ممن يشاركون بصورة منتظمة في الصحافة المحلية لإبداء الرأي في لبنان. بالمقابل، بينما يقرب عدد التدريسيين المشتغلين في الجامعات العراقية من (40) ألف تدريسي بحسب احصاءات وزارة التعليم العالي والبحث العلمي لعام 2012 – 2013، يعملون في (29) جامعة ويخدمون (555) ألف طالبة وطالب في مختلف مراحل الدراسة الجامعية، فإنّ المساهمين في صفحات الرأي في الصحافة الوطنية لا يتعدى عدد أصابع اليد الواحدة.
ومن خلال الإطلاع على قانون الخدمة الجامعية يظهر أنّ هناك إهتماماً بالظروف المادية والعائلية لموظف الخدمة الجامعية أكثر من الإهتمام بظروف العمل والبيئة الصالحة للإنتاج الفكري والعلمي. تشهد على ذلك البنية التحتية لكثير من الجامعات العراقية التي تفتقر إلى المستلزمات التقنية اللازمة بحيث صار التدريسي يعمل في بيته وليس في مكتبه مما أدى إلى أنْ تخلو معظم الكليات والجامعات من المشتغلين فيها بعد الظهيرة، بقليل. ومن خلال إجراءات الوزارة المعنية لمساعدة الطلبة يتضح بالدليل المادي أنّ تطوير نوعية التعليم يأتي في المرتبة ما بعد الأخيرة في العراق. ففي الوقت الذي تتباهى الجامعات المتقدمة في العالم برفع سقف معدلات النجاح ليصل أقلها إلى (70) درجة للدراسات الأولية و(80) درجة للدراسات العليا فإن الوضع في العراق يقوم على قاعدة مختلفة. يكفي الطالب على سبيل المثال، الحصول على (50) درجة ليعد ناجحاً على مستوى الدراسات الأولية و(60) درجة على مستوى الدراسات العليا. ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل غالباً ما تقرر الوزارة بين فترة وأخرى منح مكافآت مجزية بصيغة درجات مجانية تضاف إلى المعدل تخص فيها فئات محددة من الطلبة كما في ذوي الشهداء والسجناء السياسيين ممن منحوا هذا العام (35) درجة أو ما يعادل (5%) على المعدل للمتقدمين للإختصاصات الطبية التي تشمل كليات الطب وطب الأسنان والصيدلة والتمريض، فيما منح الباقون من المتقدمين للإختصاصات الأخرى (50) درجة أو (7%) على المعدل للمساعدة. لا يخفى على بال أحد ما لهذه المكافآت المجانية من تأثير محبط لعزائم الطلبة الذين نجحوا بجهدهم وجدهم وإجتهادهم. ضحايا العمليات الحربية والسياسات الظالمة بحاجة إلى مساعدات مادية مهمة مثل قطعة أرض أو دار سكنية وراتب مجزٍ من الرعاية الاجتماعية للرعاية الاجتماعية يدفع بإنتظام وليس درجات تمنح بسخاء دون تقدير ما يترتب عليها من نتائج كارثية على مستقبل العملية التعليمية وبالتالي مستقبل البلاد. جميعنا يعرف الظروف القاسية التي يعاني منها الطلبة عموماً وبخاصة على مستوى خوض إمتحانات الدراسة الإعدادية للحصول على شهادة البكالوريا أو الجامعية للحصول على شهادة البكالوريوس إلا أنّ المساعدة ينبغي ألا تأتي عن هذا الطريق. فضلاً عن ذلك ماذا عن الفئات الاجتماعية الأخرى التي لم تُشمل بمثل هذه المساعدات السخية مثل من جرح آباؤهم أو أخوتهم وهم ممن يعانون من ظروف اقتصادية واجتماعية خانقة، إبتداءً! وماذا عن الطلبة الذين يعملون ويدرسون في الوقت نفسه لإعالة عوائلهم أو في الأقل أنفسهم ممن تتصاعد أعدادهم بسرعة فائقة ويصبحون من الفئات الثابتة والشائعة في الجامعات، اليوم! وغيرهم الكثير.
أخيراً وليس آخراً، في الوقت الذي تهتم فيه الأكاديميات في العالم بتنظيمات الطلبة وتشجعها على النجاح لتكون منظمات مهنية تعنى بشؤون وقضايا الطلبة المشروعة ذات الصلة المباشرة بظروف الدراسة فإنّ الأكاديميا العراقية تعج بمنظمات طلابية ذات توجهات سياسية ودينية ومذهبية مكشوفة تعمل وفق مبدأ “الواجهة” لهذا الفصيل السياسي أو ذاك. ولا أدل على ذلك من قيام الوزارة بين فترة وأخرى للتدخل لمنع هذه التنظيمات من العمل لما تسببه من إشكالات وتمارسه من تدخلات لا تخدم العملية التعليمية بقدر ما تشيع أجواءً من التحزب والتخندق التخاصمية والبعيدة عن المصالح المباشرة لجماهير الطلبة. هذه بعض من المشكلات التي تقف دون نهضة التعليم العالي بالعراق الأمر الذي يتطلب تدخلاً حاسماً ومسؤولاً لمعالجتها وعلى قاعدة من المساواة والإنصاف للجميع وبما لا يخل بالعملية التعليمية لتحسين نوعية وأداء المدخلات فيها تمهيداً لمخرجات سليمة والا فإنّ المستقبل لا يبشر بالكثير مما هو حسن وباعث على الأمل.