التعزيز المالي للعراق.. رؤية للأعوام 2018- 2020
مظهر محمد صالح
تهيمن واردات النفط الخام على ترتيب وحركة ثلاثة موازين اساسية في الاقتصاد الوطني وهي الحساب الجاري لميزان المدفوعات (او ما يسمى بالرصيد الاجمالي لميزان المدفوعات، الذي تشكل تدفقات ايرادات النفط فيه نسبة 98بالمئة من اجمالي تدفقات العملة الأجنبية ) . وكذلك الموازنة العامة الاتحادية اذ تمثل الايرادات النفطية بما لا يقل عن 92بالمئة من اجمالي الايرادات السنوية للموازنة العامة.
والميزان الاخير هو مساهمة القطاع النفطي في مكونات الناتج المحلي الاجمالي الذي يتراوح بين 46 – 50بالمئة من تركيب ذلك الناتج. في حين لم تزد الايرادات غير النفطية في تقديرات الموازنة العامة لسنة 2017 على 8 ترليونات دينار ,منها (5,7 ترليونات دينار هي الحصيلة الضريبية منها : (4) ترليونات دينار ضرائب مباشرة عن دخل الملكية و (1,7) ترليون دينار ضرائب غير مباشرة كالجمارك وغيرها) .* واذا ما استثنينا المورد النفطي من الموازين الثلاثة المذكورة آنفاً، فأن البلاد ستنصرف الى عجز ثلاثي مركب يصعب تفكيكه في المدة القصيرة بسبب ضيق التنوع في مصادر الدخل الوطني .
وبناء على ما تقدم , فقد اوجدت المالية العامة الحديثة للبلدان المنتجة و المصدرة للمواد الخام معيارا لقياس العجز الفعلي المتجذر في البنيان المالي للاقتصادات الشديدة الريعية أطلق عليه Non Oil Primary Balance- NOPB
اي الرصيد غير النفطي الذي يعبر عن المقدار
*يلحظ ان الايرادات الاخرى غير النفطية لم تزد على 2,4 ترليون دينار تمثل الايرادات الراسمالية (عن بيع ممتلكات الدولة كالاراضي و العقارات) و ايرادات تحويلية (مثل رسوم اجازة الهاتف النقال و فروقات سعر الصرف ونفقات مستردة وغيرها).
كما ان الايرادات الضريبية بمجملها لاتزيد على 2بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي حسب احصاءات العام 2016 وتشكل ضريبة الدخل والملكية (الضرائب المباشرة) نصف النسبة انفا. وخلاصة القول: فان اجمالي الايرادات غير النفطية في الاحوال كافة لم تزد على 5 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي وهي تقارب من 8بالمئة من اجمالي ايرادات الموازنة العامة الفعلية .
المالي (السالب) فيما لو تم طرح النفقات العامة كلها من الايرادات غير النفطية (على ان تنزل النفقات المصروفة على القطاع النفطي من النفقات الكلية وكذلك خدمات الديون لكونها تتعلق بالتزامات السنوات المالية السابقة). وبهذا سيبلغ الرصيد الرئيس غير النفطي في العام 2017 بنحو (72) ترليون دينار. وان العجز او الاشارة السالبة هي تعبير عن ان الايرادات غير النفطية لا تشكل سوى 5بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي للبلاد, في حين تبلغ الايرادات النفطية بين 46 5- بالمئة من مكونات ذلك الناتج الاجمالي للعراق. وهذا ما جعل العوائد النفطية تزيد بنحو 9 – 10 مرات العوائد غير النفطية في الموازنة العامة ما يعني ان البلاد معتمدة في نفقاتها العامة على عوائد النفط.
وقد اصبحت ضآلة الموارد غير النفطية في تركيب الموازنة العامة تشكل تهديدا ماليا عميقا بسبب بناء الموازنة الاتحادية على ثوابت انفاق يصعب تفكيكها وفي مقدمتها الرواتب والاجور والتقاعدات و رواتب العاملين في الشركات المملوكة للدولة (العاطلين عن
العمل). اذ تستحوذ تخصيصات الرواتب والاجور والتقاعد جميعها على نسبة تبلغ 50بالمئة من اجمالي سقف النفقات العامة لموازنة البلاد وهي تغطى بايرادات النفط حصريا او من خلال الاقتراض الداخلي والخارجي ولاسيما خلال سنوات الركود النفطي المنصرمة.
وعليه فأنه لا خيار امام السياسة المالية للعراق سوى خيار واحد هو التعزيز المالي في الامدين القصير والمتوسط و تنويع الاقتصاد ومصادر الدخل الوطني عبر برامج انمائية في الامد البعيد (العراق 2030).
لذا امست الحاجة الى تعظيم موارد الموازنة العامة غير النفطية تتطلب ادراكا للعوامل الاقتصادية الموضوعية الاتية :-
أولا:- يعد العراق من البلدان المرتفعة في الانفاق الحكومي نسبة الى الناتج المحلي الاجمالي بنحو يبلغ 46بالمئة منه مما يقتضي خفض هذه النسبة لمصلحة اقتصاد السوق ودور القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي وتكوين الطلب الكلي.
ثانيا:- مازالت المؤشرات المالية للبلاد تبين اعتماد العراق على ايرادات النفط او التوسع فيها لتغطية النفقات العامة وهو مورد غير مضمون مما يقتضي اصلاحا ماليا جذريا جديدا في تركيب لايرادات العامة.
ثالثا:- جاءت الفرصة للتصدي الى المصاريف والنفقات الحكومية غير الضرورية ابتداء من الدعم وامتداده لغير مستحقيه وانتهاء بالاوعية الضريبية المتهربة التي تراكم دخول وثروات بعيدة عن نطاق المالية العامة واهدافها الاجتماعية والاقتصادية.
رابعا:- ان اعباء الحرب على الارهاب الداعشي واعباء اعادة الأعمار وتنمية مناطق العراق كافة تتطلب برنامجا ماليا متشددا لا ماحالة بما يخدم توجيه الموارد المالية نحو الاستقرار والتنمية والتصدي لمظاهر التبذير.
2 – ملامح التعزيز المالي في العراق 2018 – 2020 Fiscal consolidation
ان امام السياسة المالية للعراق اليوم البحث عن الفرص المعظمة للموارد غير النفطية التي تجعل مقياس الرصيد الرئيسي غير النفطي– NOPD
هدفا للتعزيز والتكيفات المالية المطلوبة على مستوى ضبط النفقات العامة والسيطرة عليها وتعظيم الايرادات غير النفطية فلابد من ملاحظة ما يأتي :
أ- بغية الحفاظ على الرصيد الرئيس غير النفطي NOPD
ثابتا في الامد القصير (على مستوى السنة المالية الواحدة) ثم ليأخذ بعدها بالانخفاض في الامد المتوسط ، فلابد من اللجوء الى التعزيز المالي Fiscal consolidation الذي يمثل مجموعة السياسات التي تتخذها الدولة على المستوى الوطني الشامل او على مستوى المحافظات والاقاليم بغية السعي الى خفض العجز المالي وتراكم رصيد الدين العام . بعبارة اخرى , العمل على تخفيض العجز او التقليل من تزايد المديونية من خلال اعادة هيكلة النفقات وتخفيضها قدر الامكان وتعظيم الايرادات غير النفطية. اي جعل الرصيد غير النفطي الرئيسي NOPD ينخفض بمعدل ثابت خلال الاعوام الثلاثة المقبلة عن وضعه القائم حاليا البالغ (- 72) ترليون دينار 2017 ليبلغ (- 42) ترليون دينار في العام 2020، مفترضين ان سقف الانفاق مستقر بنحو (100 – 107) ترليونات دينار . وان نسبة التغيير في الرصيد الرئيس غير النفطي باتجاه الانخفاض او التقليص ينبغي ان تكون بنحو 70بالمئة. ما يعني ان تتحسن الايرادات غير النفطية بشكل مؤثر بما فيها الضرائب والرسوم والايرادات الرأسمالية التحويلية والمختلفة خلال السنوات 2018 – 2020 . فعلى سبيل الأفادة لابد من ان ترتفع الضرائب المباشرة وغير المباشرة والرسوم من نسبتها الحالية البالغة 6بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي (غير النفطي) لتصبح 11بالمئة من ذلك الناتج غير النفطي (بافتراض العوامل الاخرى ثابتة) حتى بلوغ سنة الهدف 2020.
ب- منهج التكييف او التعزيــــز المالي 2018 – 2020
ثمة خطوات عملية لابد من اعتمادها بدءا من السنة المالية 2018 وعلى النحو الاتي:
اولا: انشاء حساب باسم صندوق تعويضات الدين العام، تودع فيه اية زيادة ناجمة عن تحسن اسعار النفط فوق المعدل المستهدف في الموازنة الاتحادية يستخدم للتعويض عن اية ديون داخلية او خارجية مخططة خلال السنة المالية او اطفاء ديون سابقة حسب الحالة على ان يتم الالتزام بالاسعار الحالية المقدرة في الموازنة التكميلية للعام 2017 البالغة 44,4 دولاراً للبرميل الواحد من النفط المصدر خلال المدة 2018 – 2020. ويتلقى حساب صندوق تعويضات الدين العام الايرادات الراسمالية من بيع الاراضي وعقارات الدولة والايرادات التحويلية وعدها من اوجه تمويل حساب الصندوق المذكوراعلاه.
ثانيا: اعتماد وتوسيع نظام التعهيد على مستوى الجمارك Outsourcing
من خلال التعاقد مع شركات عالمية رصينة بما يضمن كفاءة الفحص والتحصيل والتخليص الجمركي بما يعظم الموارد السيادية للدولة.
ويؤدي الى انخاض كلفة الاستيرادات ويقضي على الفساد النظمي وغيره فضلا عن تعظيم الموارد العامة.
ثالثا: اعتماد نظام التعهيد على النظام الضريبي لوحدات صغار المكلفين Outsourcing
وذلك بمنح تراخيص للشركات الاهلية الرصينة لفتح منافذ تحصيل ضريبي على ان يعتمد نظام الضرائب المقطوعة Flat Rate
لصغار المكلفين لضمان التحصيل ورفع كفاءته والابتعاد عن الاجتهاد والفساد, ولا مانع من قيام منافذ التعهيد الاهلية بتولي الجباية لمختلف اوجه التحصيل الاخرى كالاجور والرسوم البلدية وغيرها .
رابعا: التوسع في نظام الشراكة مع القطاع الخاص في توزيع الطاقة الكهربائية على ان تكون سنة 2018 المالية هي المنطلق لتغطية مناطق البلاد كافة . وادراجه في نصوص قانون موازنة عام 2018 . خامسا: تشريع قانون ضريبة المبيعات باحتساب الضريبة على القيمة النهائية للخدمة، على ان تتخذ القرارات واللوائح المالية المتدرجة بغية تفادي تعقيد النظام الضريبي لضريبة المبيعات . كأن تعفى على سبيل المثال المواد الغذائية ومواد البناء وغيرها في المرحلة الاولى.
سادسا: تحسين ادارة جمع الرسوم (غير السيادية) والاجور المعتمدة وفق المادة 24 من قانون الموازنة الاتحادية للعام 2017 ، على ان ينشأ نظام حسابي واضح وشفاف يبين حركتي الايرادات والنفقات واوجه الصرف لدى وحدات الانفاق كافة وتزود وزارة المالية بحركة الحساب وأرصدته شهريا.
سابعا: تطوير نظام دعم الوقود واقتصاره على الطبقات المستهلكة الفقيرة من خلال برامج الرعاية الاجتماعية .
على ان تمسك الشركات المملوكة للدولة المنتجة والمسوقة للوقود نظاما لمحاسبة الكلفة يوضح التكاليف الفعلية للانتاج وتفادي مظاهر (الركوب المجاني) في تحصيل الربح غير الحقيقي جراء التسعير غير الواقعي للنفط الخام المكرر والمسوق داخليا.