احمد حسن البكر.. أسرار جديدة في حياة أبو هيثم

عبدالمنعم الاعسم
دائما عندما يرد اسم الرئيس العراقي الاسبق احمد حسن البكر تُقلب صفحته سريعا على قاعدة الفقه القانوني التي تقضي بان المتوفي ياخذ خطاياه الى قبره، وانه لا مبرر لمحاكمة جانٍ متوف، فقد اخذ الموت بثأر ضحاياه، وستكون محاكمته في الآخرة عما جنت يداه، وقد شاعت لدى الكثير من العراقيين (ولا اقول العرب) صورة زائفة عن رئيس وزراء انقلاب شباط 1963ورئيس جمهورية انقلاب 17 تموز 1968 باعتباره نظيف الثياب والسيرة والسجل، وقد يذهب آخرون الى القول ان البكر كان العوبة بيد صدام وانه ضحية (خطيّة) لصراع الاقوياء، ولم يكن ليعلم ما كان يدور ويدبر من قبل نائبه الذي انقلب عليه واستله عن السلطة كما تُستل الشعرة من العجين.. اقول، تلك هي صورة البكر لدى الكثيرين.
حتى ان كاتبا محترما هو حسن العلوي قال “ان البكر كان نزيها” وذهب جواد هاشم في كتابه (مذكرات وزير عراقي مع البكر وصدام) الى امتداح ما اسماه “طبيعة البكر السلمية” وزعم حازم جواد في مذكراته ان البكر كان يتزعم “تيارا معتدلا” في حزب البعث لكنه يعود الى التقرب من جوانب سلبية لـ(الاب القائد) بالقول انه “كان يثور لاتفه الاسباب” وبسبب اصابته بمرض السكري “كان يتخذ قرارا ثم يهدأ بعد ساعة فيلغي القرار” .

لكن الباحث علاء الدين الطاهر له راي آخر فكتب يقول “ان اهم ما تميز به البكر هو الغدر بأصدقائه وزملائه، فقد نقل لي حاتم مخلص ان حردان التكريتي قبل سفره الي خارج العراق علي رأس وفد رسمي زار والده جاسم بحضوره ليقول انه حل كل خلافاته مع البكر.. ولم يمض يوم او يومان حتي عُزل حردان التكريتي من جميع مناصبه وتمت تصفيته في ما بعد” وبعد اغتيال حردان التكريتي في الكويت “قام فاضل العساف بزيارة البكر فتلقاه باكيا وحزينا” .

وعلى سبيل دحض الكذبة عن “طيبة” البكر يشير البعض ممن تقربوا منه او بحثوا في خلفيات شخصيته الى دوره في تصميم قطار الموت غداة انقلاب شباط 1963 لمحاولة قتل مئات من سجناء الرأي يوم كان رئيسا للحكومة، ويؤكدون ان توقيعه كان تحت قرار اعدام رفيقه وابن بلدته وصديق رحلته رشيد مصلح بحجة الخيانة التي هي اسم لاعتراض الاخير على الحلف الجهنمي بين البكر وصدام حسين، إذ تدحرجت من على حافة هذا الحلف رقاب المئات من البعثيين ومئات الالوف من العراقيين.
ولعل الاضاءة التي سلطها الوزير فخري قدوري في مذكراته (مما سيرد بالتفصيل) على حقيقة البكر تعد من اكثر بقع الضوء نزاهة وعفوية وصدقا، فقد عايش الكاتب وهو من اقدم اعضاء حزب البعث ويعد من طبقة التكنوقراط والخبراء في مجالات الاقتصاد والتنمية، حركة البكر في مستنقع المسؤولية واضطرابه الفكري والسياسي، وفتح حفرة عميقة في شخصية عرّاب صدام حسين عرفنا من خلالها اتساخ طبعه، ومساحة احقاده، واستسلامه، عن رضى وامتنان، الى مشيئة صدام حسين، وكيف كان يتجسس ويتطوع لخدمة نائبه ويفسح له الصعود كمشروع لطاغية لا سابق لجبروته.

كان البكر يمثل امام وزرائه ومقربيه وقادة حزبه دور المغلوب على امره، او دور الساهي عما يدور من حواليه، او دور الضحية حتى، لكن قدوري، ووقائع تلك الايام الخافية، كشفت عن الوجه الاخر للبكر: المخبر الذليل لصدام حسين، والشريك في سجل الاجرام واعمال الاغتيال، والاكثر من هذا كشفت عن بشاعة مزاعم الاعتدال والبساطة والنزاهة والورع التي القيت على وجه احمد حسن البكر.

والسؤال هو: هل كان يمكن لصدام حسين، من دون احمد حسن البكر، ان يتسلق هذا السلم الوعر من قاع التنظيم الحزبي الى رئاسة دولة يعرف العالم انها عصية على الحكم وتضم شعبا من اصعب شعوب العالم إذعانا للحاكم، واستسلاما لمشيئته؟.
بل هل ان صدام حسين، الشاب المتهور، قد شق طريقه الى كرسي الحكم، بتلك العُدد السقيمة والرصيد المشبوه والكفاءة المشهود لها في اعمال الشقاوة من دون رضى وموافقة وتدبير احمد حسن البكر؟ وهل كان له ان يلجم صفوة الجنرالات مثل حردان التكريتي وابراهيم الداوود وعبدالرزاق النايف وسعدون غيدان وعبدالعزيز العقيلي وعبدالغني الراوي وصالح مهدي عماش الذين كانوا يمسكون بناصية جيش انقلابي تخلص نهائيا من نفوذ الملكيين واليساريين والكرد والقاسميين والناصريين تباعا وكانوا يديرون مفاتيحه، ويعدوه للقبض على السلطة ؟.

لا حاجة لاثارة المزيد من الاسئلة حول حقيقة تواطؤ احمد حسن البكر مع هوس صدام حسين للقيادة، لكن الشئ المهم يتمثل في انها حالة فريدة ونادرة في تاريخ هذا القوس من دول العالم الثالث ان يتخلى جنرال انقلابي محترف عن السلطة، طوعا وتصميما، لصالح شخصية مدنية.

قد يحلو لبعض الساسة والمؤرخين والكتاب ان يستعجلوا البحث في هذه المفارقة التاريخية اللافتة ليلقوا بالقضية كلها الى نظرية المؤامرة، بافتراض ان خط صعود صدام حسين الى الموقع الاول في الدولة العراقية، بتلك السهولة، قد مر من فلتر المخابرات الدولية، وقد قرأنا الكثير من الروايات والشهادات حول ذلك لكنها بقيت عرضة للشكوك والطعون من قبل شهود وباحثين موضوعيين، وستبقى هذه الطعون موضع رد وبدل حتى تفتح الملفات السرية لتلك المخابرات، برغم ان ما تم فتحه من تلك الملفات وما نشر من مذكرات حتى الان لا يعزز هذه الفرضية، وآخر تلك الشهادات ملف العراق في وزارة الخارجية البريطانية ومراسلات دائرة الشرق الاوسط السرية مع سفارة المملكة المتحدة في بغداد (نشرتها القبس الكويتية) اذ تحدثتْ عن”السيد النائب” صدام حسين باعتباره لغزا.

طبعا، لا اغامر بالزعم ان صدام حسين لم يكن ليمتلك اوراقا او خيوطا مع “جهات اجنبية” استخدمها في عملية الصعود الصاروخية الى قمة السلطة في العراق، لكني لا اميل الى التقليل، هنا، من الدور الرئيس الذي لعبه احمد حسن البكر، حصرا، في دس صدام حسين بدورة الحظ ليخلفه في رئاسة الدولة في تحد صارخ لقادة الحزب الحاكم ممن يمتلكون رصيدا وتاريخا وخبرة تزيد على ما كان يمتلكه صدام حسين بفارق هائل، وليس سرا القول بان تصفية جنرالات الجيش، من الداوود حتى عماش، المتضايقين من صدام حسين تمت على يد البكر وباسمه وبتخطيطه، كما ان مذبحة القيادة التي جرت نهاية عام 1979 لا تزال عليها بصمات البكر، ويقول مناصرون لعبدالخالق السامرائي ومرتضى الحديثي ومحمد عايش وعزت مصطفى وعدنان الحمداني ومحمد محجوب وعبدالحسن آل فرعون ان البكر وشى لصدام بهم وحضه على التخلص منهم برغم ان الفصل الاول من المسرحية التي انتهت باعدامهم جميعا في حفلة دموية مشهورة يتحدث عن مولاة الضحايا لاحمد حسن البكر غداة استقالته من رئاسة الدولة وتعيين صدام حسين بدلا عنه.
من زاوية معينة، لا مفر لمن يهمه تشريح الطغيان ان يعود الى مقدماته وخلفياته، ومقدمات وخلفيات طغيان صدام حسين هو احمد حسن البكر من دون ادنى ريب.

لنتذكر ان البكر، الجنرال والقيادي في حزب البعث ورئيس حكومة انقلاب فبراير1963 لم يتعرض للاذى ولا للمساءلة ولا حتى للمراقبة من قبل انقلابيي نوفمبر 1963 الذين اطاحوا حكم البعث وزجوا بالكثير من قيادييه في السجون، بل انه الوحيد الذي عين سفيرا لدى وزارة الخارجية قبل ان ينصرف الى حياته العائلية في منزله بحي علي الصالح خلف مطار المثنى ويجعل جزءا من المنزل حضيرة صغيرة لرعاية بقرتين تشغلانه عن السياسة، ثم ليعلن بعد شهور اعتزاله السياسة بعد ان صار يتلقى اتصالات ملحاحة من رفاقه القدامى في قيادة حزب البعث من المدنيين والعسكريين لمعرفة رايه بالاحداث وسبل التعامل معها.
وفي مذكرات السفير المصري ببغداد امين هويدي يتحدث عن حظوة احمد حسن البكر لدى الفريق القومي الحاكم بعد مقتل عبدالسلام عارف في حادث طائرة في نيسان عام 1966، فقد كانوا يثقون به الى ابعد الحدود التزاما بمحبة عارف له، وقد رشحوه من بين شخصيات عدة لرئاسة الحكومة في الترتيبات الجديدة، فلم يتم الامر له، لكن امتيازاته ومكانته بقيت واتسعت بعد تعيين عبدالرحمن عارف (شقيق عبدالسلام) رئيسا للدولة.

وإذ تمتع البكر بفضائل “وفاء” صديقه الرئيس عبدالسلام عارف، الحاكم المطلق لعهد ما بعد حكم البعث، فانه رد على ذلك الوفاء، بعد عودته الى الحكم في انقلاب 17 تموز بملاحقة ابناء عارف واقرب المقربين منه وتصفية واعتقال الكثير منهم ، ومضى الى ابعد من ذلك بالتشهير بصاحب الفضل عليه حين سمح بنشر صور مفبركة عن لقاء في ملهى ليلي بين عارف وزوجة الطيار منير روفا الذي هرب بطائرة ميغ الى اسرائيل صيف 1966.

الصورة الزائفة الشائعة عن احمد حسن البكر تتمثل في انه الرجل الحكيم والضحية، ويذهب البعض من انصاره لتلفيق ملامح تلك الحكمة الى افتراض ان البكر لو استمر في موقعه لما حدث ما حدث في العراق، فيما الوقائع، قطعت وتقطع انه لم يكن حكيما يوما ولم يكن ضحية لاحد، فقد صمم بنفسه سياسات النظام الشوفينية وكان القائد الفعلي لحرب الابادة على الكرد عام 1975 وسياسة التنكيل بمعارضي نظام البعث والتآمر على الدول العربية، والحق ان صدام حسين كان، في البداية، لونا فاقعا للبكر، بل كان التجسيم الحي لافكار البكر، والصيغة القيادية التي لم يكن البكر قادرا على تحقيقها لنفسه، ولهذا فان كل “تأسيسات” الدكتاتورية الفردية اللاحقة لصدام حسين، واستفراده بقراري الحزب الحاكم والدولة من دون منافس انما اعدت في عهد البكر وبرعايته وحماسته في الكثير من المواقف.

في مذكرات قياديين منشقين من حزب البعث ثمة رواية عن لقاء كان قد دبره خيرالله طلفاح خال صدام وصديق البكر في منزله، لهما معا، ليفاجأ البكر بمقترح من طلفاح بوجوب الاستقالة من منصبه، درءا للخلافات، وحسب تلك الرواية فان البكر اضطر، على مضض، للموافقة على المقترح بعد ان أبدى ابنه هيثم احتجاجه على هذا المقترح وعزمه على قلب الطاولة على الجميع، وتعتمد الرواية على معلومات وشائعات عن ظهور مخاشنات واصطدامات بين جماعتي البكر وصدام و”خلافات” و “زعل” بينهما كا سيتطور الى ما لاتحمد عقباه دفعت طلفاح الى تقديم وساطته التي لم تكن في واقع الامر وساطة قدر ما كانت-وهي الحقيقة- عملية تسلم وتسليم، غير ان الرواة لم يعللوا لنا سبب اذعان البكر، رجل الانقلابات والمغامرات، لهذا الخيار الذي بدا مهينا بتلك الاريحية غير العادية.

على ان شخصية احمد حسن البكر ودوره في ما حل بالعراق، من وجهة نظري، بحاجة الى المزيد من التمعن والتأمل والكشف، اولا، لأن ثمة جهل وتجهيل لحقائق تلك الشخصية حين اضفيت عليها مساحيق الطيبة والضحية، وثانيا، لعلاقتها العضوية في ترتيبات صعود صدام الى سلطة القرار المطلقة، وثالثا، لدورها في تأسيس الدولة الشمولية والبوليسية في العراق، ورابعا، لصلة الامر بما نحتاجه الان من معرفة بفايروس الزعامات التي تحكمت باقدارنا حتى لا تتكرر في غيرهم من الزعامات الصاعدة.
ويشاء شاهد وطني، وعسكري عراقي مرموق، هو السيد عربي فرحان الخميسي ان يستل ورقة من حافظته ويضمها الى الملف دعما لعزيمة تسليط الضوء على شخصية البكر ودوره، فكتب لنا يقول:

“ذكرياتي عن البكر تعود الى سنة 1946 وما بعدها حينما دخلت الكليه العسكرية بتلك السنة بالدورة رقم 25 وكان معي من الطلاب حردان التكريتي واسماعيل تايه النعيمي وقاسم امين الجنابي وقاسم العزاوي ومنعم لفته الريفي وطلبه كاظم وجبار ارحيمة الاسدي وكاظم علي جابر وجميل حداد وجميل العبوسي وغيرهم، وكل هؤلاء لعبوا دورا بالاحداث التاليه، وكان احمد حسن البكر امرفصيل الثاني للصف المتوسط للدورة 24 ومن ثم امر دورة المشاة لدورتي 25 حيث كنت احد طلابها، ومنذ ذلك التاريخ وعلى مرالايام والسنين رأيته عن قرب بعد التخرج من الكليه العسكريه. وعلى التحديد في سنة 1654 التقيت به، وكان زميلا لي هذه المره، حيث كنت برتبة ملازم اول وهوكان برتبة مقدم يشغل مساعد دورات طلاب الكليات المدنيه بما سمي (بدورات سكرين ) حيث ارتأت الحكومه آنذاك اشغال الطلبه ايام العطل وابعادهم، خوفا منهم، وكان الآمر العقيد الركن عزيز علي غالب، ومن هذا الموقع عرفت احمد حسن عن قرب تماما حيث كان يسكن حي الرستمية هو وعائلته الكبيره، بجوار مباني الكليه العسكرية في دار ريفية بسيطه ويملك فيه بقرات بزريبة ملحقه بداره، والمهم عرفت تماما ميوله وطموحاته وعقليته وافكاره وغيرها من امور، وكثيرا ما كنا نتبادل الحديث وحتى نتناول الغداء سويه عند ما اقوم بواجب الضابط الخفر.

/ان لدي الكثيرمن الذكريات عن معظم الضباط خاصة ضباط منظمة الاحرار اما عن احمد حسن فقد كان رجلا طموحا انانيا طائفيا، متعصبا دينيا، حيّالا، مراوغا، افكاره قوميه بتطرف شديد، علما ان من اقرب اصدقائه كانوا رشيد مصلح ومن بلدته ودورته وعبد اللطيف الدراجي وحسن عبود ومجيد حسين السامرائي وعبدالغني الراوي وجابر حسن وطاهر يحيى الذي هو من دورته ايضا، وكل هؤلاء غدر بهم، الواحد بعد الاخر، وكان حردان التكريتي من طلابه المدللين ايام الكليه العسكريه، وكذلك هادي خماس، وكان على الضد من فاضل عباس المهداوي وهو ايضا من دورته، واود ان اضيف ان احمد حسن البكر اعلن براءته من تعاطي امور السياسه مرتين، الاولى في زمن الزعيم عبد الكريم قاسم، والثانيه ايام عبد السلام عارف بعد انقلابه على البعث.. هكذا كان، وعلى المثل القائل ( الغاية تبرر الوسيله ) .

وإذ نصل الى خاتمة الحديث عن دور ومسؤولية احمد حسن البكر في “فرعنة” صدام حسين وما حل للعراق، فان اطار الصورة يكتمل بسطور نرصدها في كتاب زهير الجزائري (المستبد- صناعة قائد. صناعة شعب) وهي تسلط الضوء على جوانب مهمة وخطيرة لـ”الرعاية” غير الاعتيادية التي محضها البكر لخليفته الذي استفرد، بعد ذلك، بالسلطة والثروة وبتقرير حياة الملايين.
من تلك السطور نفهم انه ما كان لصدام ان يصعد فوق كل المؤسسات إلا “من خلال علاقته العائلية بالرئيس احمد حسن البكراولا” إذ تجمع الاثنين عشيرة (البو ناصر) وعلاقة التناسب مع خيرالله طلفاح.. فعدنان خير الله متزوج من ابنة البكر وصدام متزوج من ابنة خيرالله.. “وقد اعتقد البكر ان صدام، على خلاف العسكريين التكارتة، لا يهدد سلطته ما دام لا يملك نفوذا داخل الجيش، ولأن الاخير كان ملازما له منذ البداية… ولأنه ابدى دائما فروض الطاعة والتبجيل للبكر” في صورة تبدو لمن يتمعن في سطور الكتاب، كما لوان هذه العلاقة موثقة في عقد موقع بين الاثنين، إذ ان صدام، بالمقابل كان ” يتجنب تماما مناقشة البكر او الاعتراض عليه في الاجتماعات القيادية حتى مع علمه باخطائه”.

ويلاحظ الجزائري انه “مع دعم البكر، اعتمد صدام في صعوده الكاسح هذا على قيادته لاجهزة الامن في دولة اعتبرت الامن هاجسها الاول” اما العسكريون المتنفذون في الحزب ودولة الانقلاب فانه بالنسبة لهم “ما دام كل هذا يحدث امام انظار الرئيس البكر الذي عرف بموقعه العسكري اكثر من موقعه الحزبي، فلماذا لا يقبلون الواقع ويندمجون به؟” لكنه “مع صعود صدام من شريك في الحكم الى شريك كامل، كان الجيش قد اغترب عن البكر” بل ان الجيش نفسه تعرض الى سلسلة من العمليات القيصرية بدخول “خريجي الثانويات، وحتى الراسبين في البكلوريا، ميزتهم الاساسية هي تزكياتهم الحزبية” الامر الذي عزل البكر الذي كان مزهوا بصورة الاب القائد من جهة وبصورة الابن الصاعد، موضع الفخر، من جهة ثانية.
وفي ثنايا هذه الاريحية التي لا مثيل لها في الطواقم الانقلابية لدول العالم الثالث كان صدام يتحرك نحو هدفه المرسوم ليقطف ثمرة الانقلاب والسلطة وكل شئ،

وفي غضون ذلك “كان نادرا أن يحب البعثيون الشباب العسكري الشايب والبطئ الحركة الذي يتعثر حين يقرأ خطابه على الورق” وليس من دو مغزى ان يوقع البكر من دون منة ولا رفة جفن على قرار يمنح صدام حسين بموجبه رتبة فريق اول ” من دون ان يخدم يوما واحدا في الجيش” ويعلق الجزائري على ذلك بالقول “لم تبد هذه القفزة غريبة لبقية الجنرالات لأن مثل هذا الخرق سبق وان جرب بمنح ناظم كزار رتبة لواء بقرار من البكر نفسه” ومقابل ذلك، تاكيدا لوجود عقد بين الاثنين “حرص صدام على مكافأته بلقب اعتباري. فقد كانت الصحافة تكتفي بـ(رئيس الجمهورية) و(امين سر القيادة القطرية) كلقبين للبكر، ولكن، حال تسلمه مسؤولية مكتب الثقافة والاعلام خلفا لعبدالخالق السامرائي، اصدر صدام حسين توجيها باضافة لقب القائد من ابتكاره الخاص، وكان هذا اللقب نوعا من التاكيد على الدور الاعتباري لرجل لم يعد يحكم بالفعل” كل ذلك تمهيدا لعملية النقل الانسيابية للسلطات.

/في كتاب زهير الجزائري اشارة بالغة الدلالة الى خلفيات التنسيق، او كما سميناها العقد بين البكر وصدام، ففيما تنحى الاول عن الحكم ظهران الفرصة ليست سهلة لاحلال الثاني محله، بطريقة ميكانيكية، بسبب تحرك مجموعة معارضة نحو ضبط هذه العملية وفق قواعد الانتخاب والاجماع ونظام ادارة الجلسات لتعطيل انتقال الرئاسة الى صدام، إلا ان “اصرار البكر (على نقل السلطة الى صدام) خذل المجموعة” وهذه هي زبدة المقال، وأصل ما نريد التأكيد عليه: البكر بلط الطريق، بسبق الاصرار، الى الكارثة.