رحيل الطالباني.. رحيل تاريخ ومرحلة

د. عادل عبد المهدي
عندما يرحل قائد تاريخي كالطالباني، ويغيب مناضل كبير بوزنه، فهذا مؤشر ان تاريخاً طويلاً يطوي نفسه، ليبدأ تاريخ جديد.. وان مرحلة كاملة تعلن عن نهاياتها، امام مرحلة جديدة. فالطالباني بوزنه وبذاته تاريخ ومرحلة، يصنع الحدث، بل هو الحدث، فاستحق تسمية “النجف” له بـ”صمام الامان”، لدوره عند الملمات ورئاسته للبلاد، وحرصه على وحدتها وتعايش مكوناتها.
تعود علاقاتنا لسبعينات القرن الماضي.. كان منفياً في سوريا. ومنذاك –ورغم اختلاف انتماءاتنا- ربطتنا صداقة ووحدة عمل لم تنفصم.. نحلم ونخطط ونعمل لنصرة شعبنا المظلوم، وتوحيد صفوف المعارضة المبعثرة بكل توجهاتها الاسلامية والعلمانية، الشيعية والسنية والعربية والتركمانية والكردية والمسيحية وبكل تلاوينها، وهو ما لن يفهمه البعض اليوم الذي اصبح التخندق الاثني والطائفي والفئوي طريقه للمواقع وللنجاحات الوهمية. كان عصامياً وبسيطاً وميدانياً يعيش مع مقاتليه وكوادره وجمهوره.. بنى نفسه بنفسه ليكون قائداً ومقاتلاً ومفاوضاً ومنظماً، وفي اعلى المستويات.. حاضر الذهن والمبادرة دائماً.. اديباً يحفظ الكثير من القرآن الكريم، والشعر الكردي والعربي والفارسي.. ويجيد اللغات الكردية والعربية والفارسية والانكليزية وبعض الفرنسية. كريماً وصاحب فكاهة ورواية، ومتواضعاً لاعلى الدرجات، فهو يبحث عن “النكات” التي تتناوله ليرويها لجلسائه.. قارئاً ومتابعاً جيداً، والكتاب هديته المفضلة.. لا اعتقد ان احداً يمتلك علاقاته سواء مع البسطاء من الناس او من الزعماء والقادة، ومن كل المعسكرات الاشتراكية والغربية والاسلامية وحركات التحرر، ناهيك عن علاقاته بالقوى العراقية بمختلف توجهاتها.
اسس بعد انهيار الثورة الكردية عام 1975 “الاتحاد الوطني الكردستاني”. كانت لدينا يومها تشكيلات للكفاح المسلح تعمل داخل المدن والارياف العراقية.. فتعاونا في الصغيرة والكبيرة، كالمنشورات والمواقف والاتصالات السياسية، وجمع الاسلحة وتنظيم قوانا وتشكيل الجبهات وبناء العلاقات بدول المنطقة والعالم وقواها السياسية، ومساعدة شعبنا بشتى الطرق، ومنها قيامنا بطبع الوثائق وجوازات سفر، والتي ساعدت اعداداً غفيرة من العوائل العراقية لتسهيل امورهم امام القمع والظروف الصعبة، وامور كثيرة تتطلب مجلدات للكلام عنها.
نجح باعادة اولى قواعده الثورية في السليمانية، وكنت هناك في كانون الاول 1978، وكانت الثورة الاسلامية في اوج تصاعدها وانتصاراتها بقيادة الامام الخميني قدس سره، وتكلمنا يومها عن مشروع يجمع بلدان المنطقة في مشروع توحيدي يضمن تعايش الشعوب والقوميات المختلفة، كرؤية لحل القضايا القومية دون تمزيق اوطاننا وشعوبنا. انتصرت الثورة الاسلامية واندلعت الحرب العراقية/الايرانية، وانتقل الطالباني وقواته في 1986 لمقاتلة النظام مع قوات “بدر” و”البارت” وجبهة واسعة انتشرت في جبال كردستان وأهوار العراق ومدنه، والتي كانت عماد انتفاضة اذار/شعبان 1991. صار واضحاً ان الشعب استعاد قوته ووحدته وسار لتحرير نفسه، فرأى البعض ذلك نهوضاً شيعياً/كردياً، وشيعياً/سنياً، وعلمانياً/اسلامياً، وعربياً/كردياً/تركمانياً.. فتدخلت دول اقليمية ودولية لايقاف النصر العراقي، فكانت “خيمة صفوان” والجنرال “شوارتسكوف” والأمير “خالد”، فحصلت المجازر الرهيبة لقمع الانتفاضة، والابقاء على صدام.
دولت الحرب العراقية/الايرانية واجتياح الكويت والحصار والعقوبات والقرارات الاممية قضية الشعب العراقي، وجاء الاجتياح الامريكي للعراق ليتوج هذا التدويل، ولنشهد مرحلة معقدة تتداخل فيها القوى والمهام العراقية والاقليمية والدولية مع مواجهة الارهاب ومهام تصفية موروثات الماضي، وبناء المجتمع والدولة الجديدين. بقي الطالباني وسط هذه الامواج قائداً كبيراً من الطراز الاول. وساهم مع اخوانه لنقل العراق من مرحلة لاخرى، ومن تاريخ لاخر.. وفي الحالتين سيصعب فهم المرحلة الحالية وصعوباتها، او فهم التاريخ الجديد ومستلزماته، ان لم نحسن فهم المرحلة والتاريخ السابقين، والتعلم من نجاحاتهما وسلبياتهما. لذلك ننصح الاجيال الشابة، المنشغلة بهموم اليوم، ان تدرسهما جيداً وتستخلص منهما العبر، لتستطيع اكمال المسيرة والتقدم وسط التحديات. فالطالباني كقائد ومناضل ورئيس دولة هو رمز هذين التاريخين والمرحلتين.
الطالباني شخصية فذة للحركة الكردية والحركة الوطنية العراقية.. والطالباني اخ ورفيق طريق لي ولاعداد غفيرة من الذين يعلمون دوره في وحدتنا وانتصاراتنا وتقدمنا وتحرر شعبنا، او الدور الذي كان سيلعبه لوحدة البلاد وائتلاف المكونات، في هذه الظروف المعقدة والصعبة، والتي تحتاج الى شجاعة وحكمة وبعد نظر الطالباني.. فـ{إنا لله وإنا اليه راجعون}.