كركوك.. مدينة التعايش

محمد الوزان*
ما ان انجلت غبرة الاستفتاء حتى بدأت تتضح ملامح التداعيات وعرض المسكوت عنه منذ ان قام رئيس الوزراء السابق نوري المالكي باتفاقات سرية بين حزبه والحزب الديمقراطي الكردستاني والتي فضحتها الماكينة الاعلامة للغريم “الاتحاد الوطني الكردستاني”.
تداعيات الاستفتاء تجلت بمعظمها بتساؤلات حول كركوك وأحقية وجود البيشمركة فقط في ادارة أمنها , وان كان ذلك مضمون اتفاقات المالكي- بارزاني فضلا عن مضامين اخرى .
كركوك هي المدينة التي لم تطأها قدم اية قوة عسكرية عراقية منذ عام 2011 وكان قبلها تدار من قبل جهتين : قوات الاقليم وقوات المركز حسب قانون ادارة الدولة وحسب مضامين الدستور حيث اعطي لكركوك وضعا خاصا على اعتبار اهمية ازمتها وتعقيداتها . كما انها ذات حساسية متفردة حيث يرى الاتراك ان لهم الحق في تقرير مصير هذه المدينة
عام 2002 وفي اطار اقناع الولايات المتحدة لتركيا في المساعدة في غزو العراق زار مسؤولون كثيرون من الادارة الامريكية انقرة لاقناع الاتراك وتنسيق المواقف بشان غزو العراق , فكان المطلب التركي الاساس في كل لقاء هو كركوك .
ومن ضمن من وصل انقرة كان وزير الخارجية الامريكية وقتذاك كولن باول وعضو مجلس الشيوخ الامريكي ليبرمان ورئيس وكالة المخابرات الامريكية الجنرال ويسلي , الاخير قدم وعودا لتركيا بامتيازات في نفط كركوك .
وكانت تركيا قدمت شروطها لوفد الكونغرس الامريكي وكانت تتضمن تعهد الولايات المتحدة بعدم تاسيس دولة كردية في شمال العراق , وعدم تاسيس عراق فيدرالي مقسم على اسس اثنية, وان تتعهد الادارة الامريكية ان لا تكون كركوك تحت سيطرة الاكراد واخيرا تتعهد بمنح الاقلية التركمانية حقوقا واسعة .
الولايات المتحدة اعلنت موافقتها على الشروط التركية الاربعة وفي هذا الاطار تعهد وزير الخارجية الامريكي كولن باول في مؤتمر في تونس على حرص الولايات المتحدة لابقاء العراق موحدا ومن ضمنه الجزء الكردي مع مراعاة خصوصية الاكراد ولكن ضمن العراق الواحد.
اليوم ترى تركيا نفسها امام ضعف في اداء التعهدات الامريكية يقابله عدم قدرة تركية على التغيير وفق متبنيات السياسة التركية ووفق ما حددت معاهدة لوزان عام 1926 للاتراك من دور في كركوك حيث ان المعاهدة اعطت حقا لتركيا في التدخل حال وجود تهديد لتركمان العراق الامر الذي باتت تحس به تركيا وكانت تتغاضى عنه منذ 2013 حينما مدت يدا لمسعود بارزاني وفتحت منافذ العراق الحدودية دون المرور والتنسيق مع الحكومة المركزية في بغداد , لكن التغاضي التريكي وصل الى مستواه العالي وبات الحكم بالمكاشفة امرا لا بد منه خصوصا وان الجناح المتشدد في تركيا بدأ يضغط على ادارة اردوغان لحل وشيك واثبات ان دور تركيا ما زال قويا.
اما من جانب الحكومة المركزية فقد اعلنت رئاسة الوزراء ان من حق القوات الحكومية المشاركة في ادارة مدينة كركوك على اعتبار ان المدينة ليست خاضعة اداريا للاقليم , الامر الذي جعل من الاكراد يشمرون عن ساق كي يكونوا متهيئين ومدافعين عن “قلب كردستان” كما تلقب كركوك في الثقافة الكردية الجديدة بعد اكتشاف نفطها عام 1918.
كل هذه المعطيات تجعل من كركوك ذات خصوصية وتعامل يختلف عن المحافظات الاخرى , وما يخشى الان هو عدم سيطرة الادارة في الاقليم والادارة في الحكومة المركزية على ضبط ايقاع المتشددين او المتصيدين في الماء العكر من اثارة النعرات واشعال شرارة الفتنة في المدينة التي لم تحسم ملفاتها بعد
كركوك هي المدينة التي من الممكن ان تبقى مدينة للتعايش المتنوع لاقليات العراق وشعوبه المتألفة منذ القدم , كركوك هي المدينة التي من الممكن ان تبقى خارج اطار الهويات القومية كي يستقيم السلام بها فهي تحتضن الاكراد والعرب والتركمان وفيها مسيحيون وغيرهم وهذا يفترض ان يسهم في قوة روابط اهلها وابعاد السلم الاهلي عن التبييت السياسي .

*كاتب عراقي مقيم في الاردن