تقرير يتحدث عن “المسؤولية التاريخية” التي يتحملها صدام حسين في ما آل إليه العراق

بغداد – الاعمار
تناول تقرير نشره موقع “رصيف 22″، الأوضاع التي آل إليها العراق إثر نشوء “القاعدة” و”داعش” بعد سقوط نظام صدام حسين، متسائلا فيما إذا كان ظهور التنظيمين أمراً مستحدثاً بفعل ظروف ما بعد الغزو أم أنه امتداد طبيعي لميراث صدام حسين السياسي والأيديولوجي.
وبحسب التقرير، فإن بعض العراقيين يستذكر عصر صدام بشيء من الحنين لأيام الاستقرار والأمن على علاتها ومشاكلها الاقتصادية والاجتماعية القاسية، فيما يلقي البعض الآخر باللائمة الأولى عليه في ما وصل إليه العراق بعد الغزو، قائلين إنه مهما كان دور الأمريكيين في ذلك، فلو أنهم وجدوا أساساً اجتماعياً صلباً لما تدهورت الأمور بهذا الشكل.
ويميل الأميركيون إلى الحديث عن مسؤولية الجميع بدءاً بتاريخ الصراع السني-الشيعي وانتهاءً بحزب البعث السابق في تدهور الأوضاع ليقللوا من فداحة أخطائهم في إدارة أمور العراق بعد 2003، وفق التقرير.
ويقول التقرير، إن التفسير الأقرب للوقائع على الأرض يوزع المسؤولية بين كل من صدام والأمريكيين وسياسيي ما بعد الغزو والقوى الإقليمية التي تدخلت بشكل سافر في الشأن العراقي. ولكن ما نريد أن نسلط عليه الضوء هنا هو مدى المسؤولية التاريخية التي يتحملها صدام حسين في ما آل إليه العراق من بعده.
وتابع التقرير، بأنه “قد يكون من الصعوبة تصور بروز داعش بهذا الشكل لو كان صدام ما يزال في السلطة. ولكن هل يعني هذا أن مسار حكم صدام، وتحديداً بعد حرب الخليج الثانية عام 1991، ليس مسؤولاً عن ظهورها بعد زوال سلطته؟”.
وأضاف “يؤكد لنا التاريخ أن صدام لم يكن يتساهل إطلاقاً مع أي تهديد لسلطته المطلقة على مفاصل الحكم في العراق سواء جاء التهديد من داخل حزب البعث، أو من أنصار حزب الدعوة الشيعي أو من الإسلاميين السنّة. ولكنه، في الوقت ذاته، كان لا يمانع في استعمال الإسلام السياسي كتكتيك مرحلي ليكسب الدعم من الرأي العام، وهذا ما بدى جلياً عقب حرب 1991”.
واستطرد بأنه “لم يكن العراق يوماً خالياً من المشاكل الطائفية والعرقية والسياسية كأي بلد متعدد الطوائف والأعراق. ولكنه من الثابت أن عصر صدام حسين شهد تصاعداً غير مسبوق تاريخياً في التوترات العرقية والطائفية، كما أنهكت الحروب النسيج الاجتماعي في البلد، ووصل الاقتصاد إلى درك أسفل لم يشهده العراقيون منذ تأسيس الدولة”.
ورأى التقرير، أنه لعل من المفيد تجميل العوامل التي شكلت المجتمع العراقي الذي غزاه الأميركيون لمحاولة فهم كيف وصل العراق إلى ما وصل إليه، كما يلي:

ـ الحرب العراقية- الإيرانية
هي الحرب التي بدأها صدام عام 1980 مع إيران بهدف اقتناص فرصة ضعف النظام الإيراني في مرحلة ما بعد الثورة ضد الشاه، والتخلص من معاهدة الجزائر لترسيم الحدود عام 1975.
دامت هذه الحرب الدامية 8 سنوات وأدارها صدام بمنطلق قومي عروبي ضد الفرس مستذكراً دوماً القادسية والغزوات العربية ضد الإمبراطورية الفارسية.
ولكن التبعات الطائفية لهذه الحرب لم تكن تخفى على أحد رغم التجاهل الرسمي لها. فالقائد السياسي الأعلى لإيران آية الله الخميني، والذي يتحمل مسؤولية إطالة أمد الحرب، كان في الوقت عينه، ولا يزال، مرجعاً شيعياً مرموقاً في نظر العديد من شيعة العراق. وكانت هذه المعضلة في ازدواج النظرة، إضافة إلى ما كان يردده البعض خفيةً آنذاك من أنها حرب سنية ضد الشيعة مقدمة لشرخ طائفي في العراق.

ـ غزو الكويت
مهدت هذه المغامرة التي جاءت خارج سياق التاريخ والمنطق الأرض لتغيرات جذرية في تعاطي نظام صدام مع الموضوع الطائفي ومع الأيديولوجية التي يتبعها في مخاطبة الجماهير.
فلم يعد صدام حسين بعد غزوه الكارثي للكويت هو نفسه البطل القومي العربي الذي يحيي جماهير العرب منتشياً بوقف إطلاق النار مع إيران عام 1988. فقد أفلس صدام قومياً وعروبياً بعد أن خرق بنفسه المادة الثانية من إعلانه القومي عام 1980.
وفي مواجهة هزيمة عسكرية ساحقة حطمت الجيش العراقي بشكل لم يسبق له مثيل منذ إنشائه، وتحت نير حصار اقتصادي دولي غير مسبوق في تاريخ العراق لجأ صدام إلى العاطفة الدينية وشعارات رفض التدخل الأجنبي ليعطي زخماً لنظام فقد كل مسوغات الشرعية بعد أن فشل في حماية الأرض وجلب الكوارث إلى شعبه.
هذا التوجه الذي تبلور فيما سمي لاحقاً بالحملة الإيمانية كان مقدمة لاحتضان الفكر الإسلامي المتشدد لمواجهة الضغط الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة بعد أن أطلق غزو الكويت رصاصة الرحمة على فكرة التضامن والقومية العربية.
لم يكن صدام ممانعاً في مغازلة هذا التيار لأنه كان واثقاً من قدرته على ضبط حركته داخل العراق بواسطة أجهزته الأمنية المعروفة بشراستها في قمع المعارضين.
كما أن الخريطة الطائفية للبلد لا تسمح لهذه الأفكار بالانتشار إلا في المناطق السنية المسيطر عليها كلياً، فيما ستجد رفضاً قاطعاً في احتضانها في المناطق الشيعية في وسط العراق وجنوبه.
كما أن تعامل النظام القمعي مع أحداث الانتفاضة الشعبية بعد هزيمة 1991، والهجوم العسكري على مدن شيعية عديدة، من بينها المدن المقدسة كالنجف وكربلاء، والاختفاء القسري للآلاف في حملة قمع وحشية، هي ثلاثة أدلة على الفرز الطائفي للنظام.
فقد أصبحت المحافظات التي لم تنتفض على صدام محافظات بيضاء، فيما جيء بشيوخ عشائر المحافظات التي شهدت أعمال عنف ضد النظام، بل حتى بالمرجع الشيعي الأعلى آنذاك، ليعتذروا من القائد ويقدموا آيات الولاء.

ـ القمع كوسيلة للبقاء
واجه صدام حسين بعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق عزلة خانقة وخواء من أي إنجازات يمكن لها أن تسوغ بقاءه في الحكم. فالحرب مع إيران التي سفكت دماء مئات الألوف من شباب العراق وأهدرت المليارات من أمواله انتهت بالعودة إلى اتفاقية الجزائر التي كانت السبب الرئيس في نشوبها. ولم يكن هناك أي انجاز اقتصادي أو تنموي يذكر لنظام قضى عمره في حروب عبثية.
لذلك لجأ صدام إلى تشديد قبضته القمعية لقمع أصوات لا يمكنه مواجهتها بالحجة. فبدأ العراقيون يرون صوراً جديدة من التوحش العلني في صورة “فدائيي صدام” التي كان يشرف عليها نجل الرئيس الأكبر عدي.
كما ظهرت قوانين تعود للعصور الوسطى تقضي بقطع أذن الهارب من الخدمة العسكرية، ووشم جباههم وقطع أيادي السارقين وذبح نساء اتهمن بالبغاء علناً على أيدي الفدائيين وغيرها، مما رسخ ممارسات بشعة كانت تجري وراء اسوار المعتقلات، فإذا بها تنتقل علناً إلى شوارع بغداد.
إن تلك الممارسات الموثقة بتسجيلات قام بها النظام السابق تكشف عن مشاهد تتطابق مع ما يمارسه إرهابيو داعش هذه الأيام، وتؤكد التطابق بينهما في فكرة نشر ثقافة الرعب كأسلوب للسيطرة والبقاء.
ولقد تزامنت هذه الممارسات مع تزايد وتيرة ما سمي بالحملة الإيمانية، وتمجيد أجهزة إعلام النظام لشخص بن لادن مما أنتج شخصية متصالحة مع الفكر التكفيري وقابلة لسفك الدم بأبشع صوره والتحول إلى تفسير سياسي مشوه للمقدس كأيديولوجية بديلة للفكر البعثي تبرر هذه الممارسات.
وحين انهار النظام عام 2003، واتخذ الأمريكيون سلسلة قرارات ضد البعثيين والجيش العراقي بشكل غير مدروس، كانت هناك أرضية لانطلاق الجماعات المسلحة من هؤلاء الذين فقدوا سلطتهم وأرادوا استعادتها عن طريق تأليب كل من تضرر من سياسة ما بعد الغزو.
ولم يكن صعباً عليهم أن يرفعوا شعار الإسلام الجهادي المتشدد بعد سنوات من رعاية نظام صدام لهذه الأفكار، والتي كانت تحت مراقبة النظام اللصيقة ثم انطلقت من عقالها بعد سقوطه لتستبيح كل الدماء بهدف استعادة السلطة وتحت غطاء المدرسة التكفيرية التي تجتذب اليائسين.
وبالتالي لم يكن غريباً أن نرى ضباط جيش وأمن ومخابرات سابقين ممن خدموا في أيام صدام في الصفوف الأولى لقيادات داعش.
إذا كانت سياسات الأميركيين وبعض سياسيي المنطقة الخضراء الفاشلة في العراق، إضافة للتدخلات الاقليمية من تمويل ودعم لوجستي، من أسباب ظهور القاعدة ثم داعش، فإن قراءة الوقائع تؤكد أن صدام هو من حرث الأرض ومهدها لهذا النبات الشيطاني لينمو ويستشري في العراق.
فالعراق الذي دخله الأميركيون عام 2003 كان مهزوماً بالفعل منذ سنوات طويلة. فقد دخل الأميركيون بلداً مريضاً فقد مناعته، ومزقت الحروب نسيجه الاجتماعي ومنظومته الأخلاقية، واستشرت فيه الطائفية، وتراجعت فيه الهوية الوطنية أمام الانتماءات الطائفية والعرقية بسبب سياسات كان باعثها الأول وهم القوة والمجد، وهمّها الأخير رخاء الشعب وأمنه.