تحدي التنمية وإعادة البناء
جمال جصاني
قبل أن نعتب أو نلقي اللوم على القائمين والمشاركين في مؤتمر الكويت لإعادة إعمار العراق، الذي انعقد في منتصف الشهر الجاري، لأنهم لم يجمعوا لنا الأموال اللازمة أو نوعها (منح، قروض، استثمارات…)؛ كان علينا أن نلتفت قليلاً الى استعداداتنا وقراراتنا التي سبقت مثل ذلك النشاط الأممي الواسع، لا أن نصب جام غضبنا على الآخرين ناعتين إياهم بكل أنواع التهم. صحيح أن بلدنا تحمّل القسط الأكبر في الحرب ضد الإرهاب الدولي ورأس رمحه (داعش) وتعرض بسبب ذلك الى خسائر هائلة بشرياً ومادياً، مما يضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته التضامنية في دعم وإسناد العراقيين للنهوض وإعادة بناء مدنهم ومناطقهم المدمرة؛ لا سيما وأن انطلاق مثل تلك المشاريع سيؤسس لعراق آمن ومستقر، يرفد بدوره أمن واستقرار المنطقة والعالم؛ إلا أن شرط تحول كل تلك التطلعات والخطط الى واقع، يعتمد أولاً وأخيراً على استعداد وهمّة العراقيين على النهوض بمثل هذه المهمات. حتى هذه اللحظة لا تشير المعطيات والهموم والاهتمامات التي تشغل “أولي الأمر” و “رعيتهم” بما ينبئ بوجود مثل تلك الميول والاستعدادات، فعلى سبيل المثال يمكن متابعة ما يحصل مع أعلى سلطة تشريعية في البلد، وكيف تعاطت مع أهم قانون اقتصادي اجتماعي وسياسي (الموازنة العامة للعام 2018) والذي لم يقر حتى هذه اللحظة، والى انشغالهم بتعديل قانون الانتخابات في الوقت الضائع، وإصرارهم على رفع مستوى “النخبوية” في مجلسهم العتيد، عبر شرط البكلوريوس فما فوق…؟! أما في السلطات الأخرى فلا يختلف الأمر كثيراً عما يحصل مع شقيقتهم الكبرى (التشريعية والرقابية) إذ اخطبوط الفساد واعتماد معايير ما قبل الدولة الحديثة هي المهيمنة، رغم أنف العجاج المتصاعد عن كل أنواع الفزعات التي تدعي الإصلاح والتغيير وغير ذلك من الشعارات الرائجة اليوم في بورصة المزاودات الانتخابية.
في التعاطي مع مثل هذه المشاريع المتعددة الجبهات (إعادة الإعمار) لا نحتاج الى المزيد من “الحنديريات” العقائدية والتعبوية والديباجات الجاهزة، تلك الترسانة الصدئة التي عصفت بأعمار وآمال أجيال عديدة من العراقيين، لا نحتاج الى إعادة اجترار الخطابات الإعلامية التي تحرص على أن لا تصل المعلومة والأرقام الفعلية للمتلقي، تحت ذريعة الحرص على إبقاء المعنويات مرتفعة وغير ذلك من منهج الوصاية على الناس. ما نحتاجه هو التعرف على إمكاناتنا الفعلية وعلل عجزنا وفشلنا في التصدي للتحديات الواقعية (لا الخرافية) التي تواجهنا، وبمقدورنا أن نجعل من هذه الفرصة التاريخية (مؤتمر الكويت الدولي لإعادة إعمار العراق) منطلقاً لتوجهات مغايرة لما جرى من عشوائية وتخبط في رسم الأولويات التي تتطلبها مرحلة الانتقال المفترضة بعد زوال النظام المباد. نحتاج الى قرارات شجاعة لا تبدد الوقت بالتملق لحاجات إعادة التدوير عشية الانتخابات المقبلة، قرارات تعزز ثقة المستثمرين المحليين والأجانب؛ بوجود إرادة جادة تشرع الأبواب لعراق آخر، ينطلق بعيداً عن مستنقعات التشرذم على أساس “الهويات القاتلة” وكل ما له صله باللصوصية والإجرام والشعوذة والفساد. على الحكومة الحالية إن كانت جادة في جذب الاستثمارات، أن تستثمر فيما تبقى من عمرها بمواقف وقرارات ترسم فيه خارطة طريق للحكومة المقبلة، والتي سيقع على عاتقها النهوض بمهمة قيادة العراق وتسخير كل مواهب وإمكانات سكانه على طريق المصالحة الحقيقية والتنمية وإعادة الإعمار والبناء…